قفز إلى واجهة الاهتمامات الاقتصادية مصير الدولار الأميركي الذي يتربّع على عرش العملات الصعبة، متحكماً باقتصادات الدول وباستقرار ميزانياتها ومدفوعاتها، إذ تنبأ البعض تراجعاً في قيمته، استناداً إلى عدة تحركات منها ممارسة بعض الدول ضغوطات بقوة من أجل تسوية التجارة الدولية بعملات غير الدولار مثل الهند والبرازيل والصين، علما أن هذه الأخيرة تريد جعل اليوان بديلاً عنه في صفقات النفط .
وليس بعيداً عن ذلك، تسعى روسيا مع إيران إلى إيجاد عملة مشفّرة مدعومة بالذهب، من دون أن ننسى أنه من أهداف مجموعة "البريكس" الاستقلال عن الدولار. إلا أن دخول الدولار في قنوات التجارة العالمية كعملة رئيسية عقّد فكّ الارتباط به بسهولة وبسرعة لاعتبارات عدة أبرزها:
أولاً: تسعيرة برميل النفط على قاعدة الدولار. إن اتفاق السعودية مع الولايات المتحدة على تسعير وبيع النفط بالدولار الأميركي، والذي خلق مصطلح "البترودولار" في سبعينيات القرن الماضي، كان عاملاً أسهم في قوة هذه العملة.
ثانياً: معظم صناعة الأسلحة الناشطة تتبنى أسعار الدولار باعتبار أن الولايات المتحدة الأميركية تملك الحصة الأكبر في السوق العالمي.
ثالثاً: ارتباطه المتين بالذهب. صحيح أن قصة فكّ هذا الارتباط بدأت بعد الحرب العالمية الأولى، لكنه ما لبث أن عاد مجدداً ليكون مرجعية للعملات بعد توقيع اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، بعدما عجزت الدول المتقدمة عن تغطية عملاتها بالذهب، ومن ثم رغبتها في التخلّي عن معيار الذهب.
ومنذ ذلك الوقت، ارتبط سعر الصرف لجميع العملات بالدولار، كما سمحت هذه الاتفاقية للدول الأخرى بدعم عملاتها بالدولار بديلاً من الذهب.
رغم وجود نحو 180 عملة حول العالم، فإن عدداً قليلاً منها يتم استخدامه على نطاق واسع في التعاملات الدولية، حيث الأفضلية للدولار، وفق البيانات الدولية.
هل سيشهد النظام النقدي الدولي تغيّرات حاسمة بفعل عوامل اقتصادية وجغرافية - سياسية وتكنولوجية تكون نتيجتها تنحّي الدولار الأميركي عن مركزه. ما هي أبرز المؤشرات؟
صليبي
يقول كبير محللي الأسواق المالية فيFxPro ميشال صليبي لـ"النهار": "يجب رصد حركة سعر الدولار من منظارين؛ الأول، على المدى القصير، وإرتباطه بالدورة الإقتصادية خلال السنوات الأخيرة. والثاني، على المدى الأطول حيث الانعكاسات الجيو ـ سياسية والجغرافية والتكنولوجية على سعره.
وفق المنظار الأول، اجتاز سعر الدولار في آخر 3 سنوات مرحلة هامة تفوّق فيها بشكل كبير على باقي العملات الرئيسية، نتيجة ارتفاع التضخم بعد جائحة كوفيد-19، ما حدا بالاحتياطي الفيدرالي الأميركي إلى اعتماد دورة تشديدية تمّ معها رفع سعر الفائدة بشكل كبير وصولاً الى مستواها الحالي، وأصبحت العملة الأميركية الأداة الأفضل في مقابل أدنى مستويات وصلت إليها باقي العملات مثل اليورو، والبتكوين، والمعادن والذهب الذي وصل الى نحو 1,650 $ في 2022. وكان من الطبيعي أن ترتفع عوائد سندات الخزينة وترتد إيجاباً على الدولار.
نحن اليوم في المرحلة الأخيرة مع اقتراب الفيدرالي الأميركي من تحقيق هدفه بالنسبة لمستوى التضخم الذي هو بنسبة 2%. وتبقى أنظاره موجهة نحو معالجة أزمة البطالة والتوظيف. كما أبدى الاستعداد لبدء خفض أسعار الفائدة من أعلى مستوياتها في 23 عاماً، وأول خفض لسعر الفائدة قد يكون في شهر أيلول/سبتمبر.
المنظار الثاني، مرتبط بخطوة بعض الدول ومنها دول "البريكس" على فكّ ارتباطها بعملة الدولار سواء في التبادلات التجارية والنفطية أو غيرها. وقد شاهدنا وصول مخزون احتياطي الذهب إلى أعلى مستوياته في العامين الأخيرين حيث بدأت المصارف المركزية برفع نسبته ضمن احتياطها الإستراتيجي.
من هنا، لابد من أن نشهد بعض التغيّرات حيث يتقلّص استخدام الدولار في التعامل التجاري مع بروز عملة موحدة واستخدام عملات أخرى في التبادلات النفطية".
ووفق صليبي "أسباب هذا التراجع مرتبطة بالتنويع . لذا لابد من التركيز في الفترة المقبلة على سقف الدين الأميركي. خصوصاً أن التوّجه قد يكون نحو تكبير حجم الإنفاق الحكومي ما سيزيد الدين وبالتالي من طبع العملات، ما يعني ارتفاع التضخم".
البديل يبقى من المستحيل!
ما هي انعكاسات ذلك على اقتصادات العالم؟ ولصالح أي عملات سيكون التراجع؟
التخوّف العالمي موجود إلى جانب العوامل السياسية والجغرافية والتكنولوجية. بحسب صليبي، "تراجع الدولار الأميركي قد تنتج عنه انعكاسات واسعة ومتعددة على الاقتصاد العالمي، بالنظر إلى دوره المحوري كعملة احتياط عالمية وكأداة للتبادل التجاري الدولي، إن كان من ناحية زيادة التقلبات في الأسواق العالمية إذ أن تراجع قيمة الدولار قد يؤدي إلى تقلبات كبيرة في الأسواق المالية العالمية. ونظراً لأن الدولار هو العملة المرجعية في العديد من الأصول المالية، فإن أي تقلبات في سعره قد تؤثر بشكل مباشر على الأسهم، السندات، والأسواق الناشئة. كما سيؤثّر أيضاً على ارتفاع العملات الأخرى مثل اليورو، الين الياباني، واليوان الصيني. وقد يزيد ذلك من الضغوط التضخمية في تلك الدول، ويؤثر على قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية. إضافة إلى تأثيره على أسعار السلع الأساسية إن كان النفط أو الذهب أو السلع الزراعية والمعادن".
مع تراجع هيمنة الدولار، قد تشتدّ رغبة الدول في البحث عن عملات بديلة للتجارة، ما قد يعزز دور اليورو أو اليوان الصيني. والنتيجة تكون تغييرات في أنماط التجارة العالمية مع تأثير على الاتفاقيات التجارية الحالية.
إلا أنه برأي صليبي، "لا يوجد أي عملة قادرة على أن تحلّ محل الدولار حتى ولو بنسبة 50%. وفي ضوء الدراسات، لم تتمكن دول "البريكس"من فرض عملة بديلة".
ولكن رغم ذلك، قد يتقلص دور الدولار في التبادلات التجارية الثنائية أو الثلاثية، ولاسيما في مجال النفط كما رأينا في الفترة الأخيرة.
"إلا أن ذلك يبقى محدوداً بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في أميركا بالنسبة إلى الدين العام، عودة الثقة بالدولار وتحوّط المستثمرين من حصول انهيار اقتصادي فيها".
ما هي انعكاسات مضاعفة أو تخفيض عملية طبع العملة؟
ليس أمام الولايات المتحدة الأميركية سوى تكبير حجم الإنفاق لدعم الاقتصاد وخلق الوظائف، ما يعني طبع العملة ورفع سقف الدين ومنسوب التضخم.
وهنا يقول صليبي: "هذه المرة لن يكون سهلاً رفع سعر الفائدة لأن التداعيات مضرة للاقتصاد. وقد يتسبب ذلك في هروب بعض المصارف المركزية والحكومات العالمية نحو التنويع في محفظتها وكبح هيمنة الدولار في تعاملاتها. وأنا أتوقع تراجع سعر الدولار في العامين المقبلين، بعدما ذكرنا أسباب صعوده".