النهار

الصين وأفريقيا: تحالف استراتيجي يُعيد تشكيل خريطة العالم الاقتصادية
باولا عطية
المصدر: النهار
شهدت العلاقات الاقتصادية بين الصين وأفريقيا تطوراً كبيراً في العقدين الماضيين، إذ أصبحت الصين شريكاً تجارياً واستثمارياً رئيسياً للقارة الأفريقية. وتعتبر هذه العلاقة جزءاً من استراتيجية الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم، من خلال بناء علاقات قوية مع الدول النامية، وذلك ضمن مفهوم "القوة الناعمة" التي تنتهجه الصين.
الصين وأفريقيا: تحالف استراتيجي يُعيد تشكيل خريطة العالم الاقتصادية
التعاون التجاري بين أفريقيا والصين
A+   A-
شهدت العلاقات الاقتصادية بين الصين وأفريقيا تطوراً كبيراً في العقدين الماضيين، إذ أصبحت الصين شريكاً تجارياً واستثمارياً رئيسياً للقارة الأفريقية. وتعتبر هذه العلاقة جزءاً من استراتيجية الصين لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي على مستوى العالم، من خلال بناء علاقات قوية مع الدول النامية، وذلك ضمن مفهوم "القوة الناعمة" التي تنتهجه الصين.
 
بدأت العلاقات الاقتصادية بين الصين وأفريقيا في التوسع منذ بداية الألفية الثالثة، حيث أطلقت الصين "منتدى التعاون الصيني الأفريقي" (FOCAC) في عام 2000، كآلية لتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي.
 
منذ ذلك الحين، ازدهرت العلاقات بشكل ملحوظ، وأصبحت الصين أكبر شريك تجاري لأفريقيا في عام 2009، متجاوزة الولايات المتحدة.

توازن تجاري
 
وتتمتع التجارة بين الصين وأفريقيا بتوازن يعكس احتياجات الجانبين. فمن جهة، تستورد الصين المواد الخام من أفريقيا لتلبية احتياجاتها الصناعية المتزايدة. وتشمل هذه الواردات النفط، والغاز الطبيعي، والمعادن (مثل النحاس والكوبالت والذهب)، إضافة إلى منتجات زراعية كالقطن والخشب.
 
من جهة أخرى، تصدّر الصين مجموعة واسعة من المنتجات إلى أفريقيا، تتنوع بين المنتجات الإلكترونية، والآلات، والسيارات، والملابس، إضافة إلى المواد الإنشائية اللازمة لمشاريع البنية التحتية. وهذه المنتجات تجد في أفريقيا سوقاً واعدة من حيث المساحة "إذ تبلغ مساحة أفريقيا 30 مليون كيلومتر مربع وتضم نحو 1,3 مليار نسمة"، بحسب رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية د. هيثم مزاحم، قائلاً لـ"النهار": "يعكس هذا التعاون التجاري التكامل بين القدرات الصناعية الصينية والموارد الطبيعية الأفريقية، حيث تستفيد المنطقتان من هذا التبادل المتزايد، كما يجعل من أفريقيا منفساً للصين التي تسوء علاقاتها التجارية بدول الغرب، وتحتاج إلى أسواق بديلة عن الغرب خشية تكرار السيناريو الروسي، وفرض الغرب عقوبات على الصين ومقاطعته لصناعاتها".
 
اليوم، تمثل الصين نحو 20% من حجم التجارة الخارجية لأفريقيا، وتتزايد الاستثمارات الصينية في قطاعات متعددة مثل التعدين، والطاقة، والبنية التحتية، والزراعة. كما زادت قيمة التبادل التجاري بين الجانبين بشكل هائل، لتصل إلى 282,1 مليار دولار أميركي في عام 2023، مسجلة رقماً قياسياً جديداً للعام الثاني على التوالي، فيما تجاوز حجم الاستثمار المباشر للصين في أفريقيا 40 مليار دولار حتى نهاية عام 2023، بحسب شيوي جيان بينغ، المسؤول في اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح.
 
وأكّد جيان بينغ أنه حتى نهاية حزيران (يونيو) من هذا العام، فرضت الصين تعريفات جمركية صفرية على 98% من المنتجات الخاضعة للتعريفات الجمركية من 27 دولة أفريقية أقل نمواً، ووقعت اتفاقيات ثنائية لتعزيز وحماية الاستثمار مع 34 دولة أفريقية، إضافة إلى اتفاقيات تجنب الازدواج الضريبي مع 21 دولة أفريقية.

استثمارات وقروض
ليست الصين مجرد شريك تجاري لأفريقيا، بل هي أيضاً مستثمر رئيسي في مشروعات البنية التحتية. يشمل ذلك بناء الطرق، والجسور، والسكك الحديدية، والموانئ، والتي تعتبر ضرورية لتعزيز الاقتصاد الأفريقي، وفتح مجالات أوسع للتجارة.
 
تشارك الصين أيضاً في تطوير قطاع الطاقة ببناء محطات كهرباء تعتمد على مصادر متجددة وأخرى تقليدية.
 
أبرز المشاريع "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، التي تهدف إلى تحسين البنية التحتية وربط الاقتصادات العالمية، بما في ذلك الدول الأفريقية. تزيد هذه المبادرة من أهمية الشراكة الاقتصادية بين الصين وأفريقيا، برأيي مزاحم الذي يقول: "تصل أفريقيا بين الشرق والغرب، وتتقاطع مع 4 طرقات بحرية أساسية من أصل 8 حول العالم: قناة السويس وطريق رأس الرجاء الصالح ومضيق جبل طارق ومضيق باب المندب، والتي تختصر جزءاً كبيراً من حركة الملاحة والتجارة العالمية".
 
يضيف مزاحم: "تقاطع أفريقيا مع هذه الطرق البحرية يساعد الصين على تأمين وارداتها وصادراتها، ويتيح لها فرصاً أكبر للتجارة مع باقي دول العالم، كما يساهم في تحسين ظروف النقل والتجارة داخل القارة الأفريقية نفسها".
 
إلى جانب الاستثمارات، تقدم الصين قروضاً ومساعدات تنموية للدول الأفريقية. وغالباً ما تكون هذه القروض ميسرة، ما يسمح للدول الأفريقية الحصول على التمويل اللازم لمشاريع التنمية الكبيرة. في المقابل، تعتمد هذه الدول على الشركات الصينية لتنفيذ تلك المشاريع، ما يعزز الدور الصيني في القارة.
في هذا الإطار، يلفت مزاحم إلى أن الصين تحتاج إلى أفريقيا (التي تضمّ 54 دولة) في صراعها مع تايوان، "حيث تغري الصين عدداً من الدول الأفريقية بمشاريع ومساعدات وقروض وعلاقات تجارية مقابل سحب هذه الدول اعترافها بتايوان، ما من شأنه أن يحسّن موقع الصين على المستوى الدولي".

فوائد أفريقية
 
تعتبر أفريقيا مستفيداً كبيراً من التعاون مع الصين. يقول رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية: "تحتاج القارة السمراء إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية والطاقة والزراعة لتحقيق نموها الاقتصادي والتنمية، وفي ظل محدودية الموارد الداخلية لبعض الدول الأفريقية، تأتي الاستثمارات الصينية عاملاً مساعداً مهماً".
 
إلى ذلك، يتيح هذا التعاون للدول الأفريقية فرصاً أكبر للوصول إلى الأسواق العالمية. يقول مزاحم: "إن تحسين البنية التحتية يعزز قدرة هذه الدول على تصدير منتجاتها". كما تساهم الصين في تدريب اليد العاملة الأفريقية وتمدها بالتكنولوجيا، ما يدعم جهود التنمية البشرية في القارة.
 
بالنسبة إلى الصين، أفريقيا مصدر حيوي للموارد الطبيعية التي تحتاجها لدعم اقتصادها الصناعي الضخم. ويري مزاحم أن الصين تستورد كميات كبيرة من النفط والمعادن الأفريقية للحفاظ على نموها الاقتصادي المتسارع، "كما تسعى الصين من خلال هذه العلاقات إلى تعزيز نفوذها السياسي والديبلوماسي على الساحة الدولية، ويعزز هذا التعاون الاقتصادي العلاقات الثنائية مع دول أفريقية عدة، ما يمنح الصين فرصاً أكبر للتأثير في السياسات العالمية".
 
في المحصّلة، تمثل العلاقات الاقتصادية بين الصين وأفريقيا نموذجاً للتكامل الاقتصادي بين القارات، وتستفيد الصين من الموارد الأفريقية لدعم اقتصادها الصناعي، بينما تستفيد أفريقيا من الاستثمارات الصينية لتحسين البنية التحتية وتعزيز قدراتها الإنتاجية. وعلى الرغم من التحديات، تبقى هذه العلاقات محورية لتحقيق النمو الاقتصادي في القارة الأفريقية وتعزيز نفوذ الصين في العالم.

اقرأ في النهار Premium