النهار

ألمانيا على حافة الهاوية: اقتصاد مأزوم يفقد ميزاته التنافسية في العالم
باولا عطية
المصدر: النهار
تشهد ألمانيا، التي تُعد أكبر اقتصاد في أوروبا، أزمة اقتصادية حادة ظهرت ملامحها بوضوح منذ عام 2022، متأثرة كجميع اقتصادات العالم بجائحة كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية. فقد أعلن مكتب الإحصاء الألماني (ديستاتيس) عن انكماش الاقتصاد بنسبة 0.3% خلال الربع الأخير من عام 2023، ما وضع ألمانيا في مرتبة سيئة مقارنة بدول مجموعة السبع (G7). وعلى الرغم من نجاة ألمانيا من الركود الكامل، ما زالت التحديات الاقتصادية مستمرة، خصوصاً مع التوقعات السلبية لعام 2024 وما بعده.
ألمانيا على حافة الهاوية: اقتصاد مأزوم يفقد ميزاته التنافسية في العالم
الاقتصاد الألماني
A+   A-
تشهد ألمانيا، التي تُعد أكبر اقتصاد في أوروبا، أزمة اقتصادية حادة ظهرت ملامحها بوضوح منذ عام 2022، متأثرة كجميع اقتصادات العالم بجائحة كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية. فقد أعلن مكتب الإحصاء الألماني (ديستاتيس) عن انكماش الاقتصاد بنسبة 0.3% خلال الربع الأخير من عام 2023، ما وضع ألمانيا في مرتبة سيئة مقارنة بدول مجموعة السبع (G7). وعلى الرغم من نجاة ألمانيا من الركود الكامل، ما زالت التحديات الاقتصادية مستمرة، خصوصاً مع التوقعات السلبية لعام 2024 وما بعده.

أسباب الأزمة الاقتصادية
ثمة عوامل أساسية ساهمت في تعميق الأزمة الاقتصادية في ألمانيا، أولها الاعتماد الكبير على الطاقة الروسية. فقد تأثر الاقتصاد الألماني بشكل خاص بعد تدهور العلاقات مع روسيا عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، إذ كانت ألمانيا تعتمد كثيراً على واردات الطاقة من روسيا، ما أدى إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وزيادة التضخم بشكل ملحوظ بعد توقف الإمدادات.

السبب الثاني هو انهيار سلاسل التوريد، بعدما أربكتها أزمة كورونا العالمية. وهذا الاضطراب ما أثر بشكل كبير على الصناعات التي تعتمد على استيراد المواد الخام والمنتجات نصف المصنعة، كما أدى نقص الإمدادات إلى تعطيل عمليات الإنتاج في العديد من الصناعات الرئيسية. ويضاف إلى ذلك سبب ثالث وهو انخفاض الطلب العالمي، الذي واكبه تراجع الطلب على المنتجات الألمانية في الأسواق العالمية، خصوصاً تراجع الطلب من السوق الصينية التي تعد من أكبر أسواق التصدير لألمانيا، نتيجة سياسات العقوبات ضدّ الصين التي تبناها الاتحاد الأوروبي. كما شهدت التجارة مع الولايات المتحدة تحديات كبيرة بسبب السياسات الحمائية الأميركية، حيث رفعت الولايات المتحدة الأميركية الضريبة الجمركية على السلع المستوردة التي لها بدائل في أميركا لحماية السلع المحلية.

السبب الرابع والأخير هو ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم. فإن الزيادة الهائلة في أسعار الطاقة، جنبًا إلى جنب مع ارتفاع معدلات التضخم نتيجة الجائحة، ورفع أسعار الفائدة في محاولة كبح التضخم، عوامل اجتمعت فأدت إلى تقليص القدرة الشرائية للأسر الألمانية، وتراجع الاستثمار المحلي.

انعكاسات صناعية
في ألمانيا، يساهم القطاع الصناعي بنحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي. ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية، يواجه هذا القطاع الحيوي تحديات غير مسبوقة، أبرزها:

1. ارتفاع تكاليف الإنتاج: أدى ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف المواد الخام إلى تقليص القدرة التنافسية للشركات الألمانية على الساحة العالمية. وفي ضوء المنافسة الشرسة من الصين وكوريا الجنوبية، وجدت العديد من الشركات نفسها غير قادرة على الاستمرار.

2. نقل الأنشطة إلى الخارج: أعلن العديد من الشركات الكبرى (فولكسفاغن، وبي إم دبليو، وسيمنس، وغيرها) عن نيتها نقل جزء من عملياتها إلى الولايات المتحدة والصين، حيث تتيح السياسات الأميركية الجديدة والسياسات الصينية مزايا ضريبية ودعماً حكومياً كبيراً للشركات الأجنبية.

3. ارتفاع معدلات الإفلاس: أعلن أكثر من 1,500 شركة ألمانية إفلاسها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، وتعاني الشركات المتوسطة والصغيرة بشكل خاص، وهي التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد الألماني، من ضغوط كبيرة بسبب ارتفاع التكاليف وضعف الطلب.

4. تراجع الصادرات: مع تراجع الطلب من الأسواق العالمية الرئيسية، مثل الصين وأميركا، شهد قطاع التصدير الألماني تراجعاً كبيراً. ففي عام 2023، انخفضت الصادرات بنسبة 1.4% مقارنة بعام 2022، في حين شهدت الواردات إلى ألمانيا انخفاضاً أكثر حدة بنسبة 9.7%.

أين أخطأت الحكومة الألمانية؟
على الرغم من الجهود التي بذلتها حكومة المستشار أولاف شولتس للتعامل مع الأزمة، هناك أخطاء عدة ساهمت في تفاقم الوضع:

1. التقشف وزيادة الضرائب: اتبعت الحكومة إجراءات تقشفية شملت خفضاً في الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب، ما أدى إلى اعتراضات واسعة من القطاعات المختلفة، وإلى موجة من الإضرابات التي أضرت بالاقتصاد. وأشهر هذه الأخيرة ثورة المزارعين التي شلّت حركة البلاد لأشهر، ولم تقتصر على ألمانيا بل اجتاحت معظم دول الاتحاد الأوروبي، نتيجة اعتراض المزارعين على سياسة التجارة الحرّة التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي مع دول الغرب، إضافة إلى اتفاقية التجارة مع أوكرانيا لدعم السلع من كييف، واتفاقية خفض الحواجز الجمركية مع دول "ميركوسور"، واتفاقية المناخ التي تفرض ضرائب على المزارعين نتيجة استخدامهم الديزل.

2. التأخر في دعم الصناعات: على الرغم من تقديم حزمة تحفيز اقتصادي بقيمة 3 مليارات يورو، فإن هذه الحزمة تأتي بعد تقليص الدعم بشكل كبير عن قطاعات مثل صناعة السيارات والزراعة. هذا التأخر في الدعم أثّر في قدرة الشركات على المنافسة في الأسواق العالمية.

3. البيروقراطية والإجراءات المعقدة: يشكو العديد من ممثلي الشركات الألمانية بطءاً في الإجراءات الحكومية وعدم المرونة في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. وقد عاق تأخر الحكومة في تقليص الإجراءات البيروقراطية جهود إنقاذ الشركات المتعثرة.

4. عدم التكيف مع التغيرات العالمية: قدمت الولايات المتحدة ودول أخرى دعماً هائلاً لقطاعاتها الصناعية، فيما تأخرت الحكومة الألمانية في تبني سياسات تحفيزية مشابهة، ما أدى إلى تراجع قدرتها التنافسية عالمياً.

التوقعات المستقبلية
تتوقع المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي أن يستمر الاقتصاد الألماني في حال من الضعف حتى نهاية العقد الحالي، مع توقعات بنمو بطيء جداً يصل إلى 0.5% فقط حتى عام 2028.
وعلى الرغم من تراجع معدلات التضخم إلى 2.5% في شباط (فبراير) 2024، لا تزال الشكوك قائمة حول قدرة الحكومة الألمانية على تجاوز هذه الأزمة.

وتشمل التحديات التي تواجه ألمانيا:
1. تراجع التجارة العالمية: مع استمرار التوترات في مناطق رئيسية مثل البحر الأحمر وتأثير هجمات الحوثيين على الشحن التجاري، متوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي تراجعاً أكبر، ما يؤثر في قطاع التصدير الألماني.

2. تفاقم الأعباء الحكومية: مع استمرار دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، تُقدر تكاليف هذه الحرب على الاقتصاد الألماني بأكثر من 200 مليار يورو. يُثقل هذا العبء المالي كاهل الحكومة ويعيق جهودها في تحفيز النمو الاقتصادي الداخلي.

3. مستقبل غامض للصناعة الألمانية: إذا لم تُتخذ إجراءات جذرية لدعم الصناعة الألمانية، فقد يشهد الاقتصاد الألماني تراجعاً أكبر، مع إمكانية فقدانه ميزته التنافسية على المستوى العالمي، لصالح الصين وأميركا.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium