يمرّ الاقتصاد الأوروبي بمرحلة حرجة، إذ يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى استثمارات ضخمة تصل إلى 800 مليار يورو سنويًا (نحو 884 مليار دولار) لتحقيق أهدافه التنافسية والمناخية، وفقًا لتقرير ماريو دراغي، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق ورئيس البنك المركزي الأوروبي السابق. ويعود هذا المبلغ الكبير إلى ضرورة معالجة التأخر في القدرة التنافسية لأوروبا مقارنةً بالولايات المتحدة والصين.
أسباب الأزمة الاقتصادية
تواجه أوروبا 4 تحديات رئيسية، بعضها قصير المدى والبعض الآخر طويل المدى:
1- التحديات الجيوسياسية: تتضمن الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، وانقطاع سلاسل التوريد، وتدفق اللاجئين، واحتمال نشوب صراع أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط. كما تواجه أوروبا صعود الصين، والتهديدات الإرهابية، والهجرة غير الشرعية، بجانب الشكوك حول التزام الولايات المتحدة أمن أوروبا. وكان مركز أبحاث بروجيل، ومقره بروكسل، قد كشف أن فاتورة الدول الأوروبية لحماية المنازل والشركات من ارتفاع أسعار الطاقة وصلت إلى 800 مليار يورو لمعالجة الأزمة في 2023. وكشف دراغي أن ما يقرب من 40% من واردات أوروبا تأتي من عدد محدود من الموردين الذين يصعب استبدالهم، نصف هذه الواردات تأتي من دول غير متوافقة استراتيجياً مع الاتحاد، ما يجعل الحاجة إلى سياسات اقتصادية خارجية فعالة أكثر إلحاحًا.
2- التحديات الاقتصادية: تشمل ارتفاع التضخم، وأزمة الطاقة، والدين العام، وعدم المساواة التي تمثل مشكلة كبيرة في العديد من الدول الأوروبية، ما يسبب توتراً اجتماعياً يهدد الاستقرار السياسي. ووفقًا لوكالة الإحصاء الأوروبية "يوروستات"، سجل أكثر من 20 دولة في الاتحاد الأوروبي عجزًا في الميزانية خلال عام 2023. وبحسب المصرف المركزي الأوروبي، وصل معدل التضخم السنوي في أوروبا إلى 2.7% في أيار (مايو) 2024، مرتفعاً من 2.6% في نيسان (أبريل).
3- التحديات البيئية: تتمثل في تغير المناخ، حيث تسببت التكلفة الاقتصادية للكوارث الطبيعية فى خسائر إجمالية بلغت 650 مليار يورو في السنوات الأربعين الماضية، حدثت 17% منها بين عامي 2021 و2022. كما تسببت ارتفاع درجات الحرارة في الصيف وانخفاضها بشكل متطرف في الشتاء إلى رفع الطلب على المحروقات، للتدفئة والتبريد، ما زاد من أسعار المحروقات ورفع نسب التضخم.
4- التحديات الاجتماعية: تشمل التشيخ السكاني وارتفاع معدلات البطالة، خصوصاً بين الشباب. وبحسب الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاءات الأوروبي "يوروستات"، بلغ معدل البطالة في الاتحاد الأوروبي 6% في آّذار (مارس) 2024. في عام 1950، كان 12% فقط من سكان أوروبا في سن 65، أما اليوم فقد تضاعفت هذه النسبة، حيث تشير التوقعات إلى أنه في عام 2050 ستصبح نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم 65 عاماً أكثر من 36%.
العجز المالي
تشير البيانات إلى أن 11 دولة أوروبية سجلت عجزاً في الميزانية يتجاوز عتبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي المسموح بها بموجب قواعد الاتحاد الأوروبي. وتلزم "اتفاقية الاستقرار والنمو الأوروبية" الدول الأعضاء الحفاظ على عجز لا يتجاوز هذه النسبة، مع حد أقصى للديون السيادية بنسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي. وتواجه الدول التي لا تلتزم هذه القواعد خطر التعرض للغرامات.
ومن المثير للقلق أن دولاً مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا تجاوزت نسبة العجز 3% ولا تخطط للعودة إلى الامتثال في السنوات القليلة المقبلة. قد يمثل عدم التزام هذه المعايير بداية مسار طويل نحو التفكك. على سبيل المثال، قد يتجاوز الدين العام لإيطاليا نسبة 140% من ناتجها المحلي الإجمالي.
في عام 2023، سجلت 13 دولة أوروبية مستوى دين أعلى من 60% من ناتجها المحلي الإجمالي، وكانت اليونان في المقدمة بنسبة 161.9%، تلتها إيطاليا بنسبة 137.3%، ثم فرنسا بنسبة 110.6%، وإسبانيا بنسبة 107.6%، وبلجيكا بنسبة 105.2%.
تواجه حكومات هذه الدول معضلة حقيقية، فقد يثير زيادة الضرائب أو تقليص الإنفاق للسيطرة على الديون والامتثال لمعايير الاتحاد الأوروبي غضب الناخبين. الوضع الاقتصادي الهش في أوروبا يوفر بيئة خصبة لنمو الخطاب الشعبوي، خصوصاً مع احتمال دخول الدول في جولة جديدة من التقشف المالي.
في عام 2023، أنفقت 23 دولة أوروبية أكثر مما حصلت عليه من إيرادات، وسجلت إيطاليا أعلى نسبة عجز بلغت 7.4%، تلتها المجر بنسبة 6.7%، ورومانيا بنسبة 6.6%. زيادة الضرائب أو تخفيض الإنفاق العام قد يؤثر سلبًا على الاستثمار والخدمات العامة ويحد من نمو الاقتصاد.
شهد الاقتصاد الأوروبي انكماشاً في الربع الأخير من عام 2023، مع توقعات بالانزلاق نحو الركود بنسبة تتراوح بين 1.3% إلى 0.2%. وخفضت فرنسا، على سبيل المثال، توقعاتها لنمو الناتج المحلي الإجمالي من 1.4% إلى 1%، مع تضخم عجز الميزانية ليصل إلى 44 مليار يورو في شباط (فبراير). وحدها إيطاليا تحقق متوسط نمو جيد نسبياً بنسبة 1% في منطقة اليورو، مع دين عام يبلغ 3.1 تريليون دولار.
انعكاسات سلبية على الاقتصاد
أدى ما سبق ذكره إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد، أبرزها:
1- تراجع التنافسية العالمية: تعاني أوروبا تراجعاً في القدرة التنافسية في قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والاتصالات والطاقة. وبوجود منافسين كبار كالصين والولايات المتحدة، تجد أوروبا نفسها بحاجة إلى زيادة ضخمة في الاستثمارات لدعم بنيتها التحتية وتحقيق الابتكار.
2- نقص الاستثمار في الابتكار: بحسب دراغي، تحتاج أوروبا إلى استثمارات سنوية إضافية تتراوح بين 750 و800 مليار يورو لرفع الإنتاجية والنمو، أي ما يعادل 4.4 إلى 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه النسبة تعيد أوروبا إلى مستويات السبعينيات من حيث الاستثمار، ما يعكس الحاجة الملحة للتحرك بسرعة.
3- انقسام داخلي في الاتحاد: الدول الأوروبية مترددة في التزام زيادة الإنفاق أو قبول الديون المشتركة. تقاوم حكومات مثل ألمانيا وهولندا هذه الفكرة خوفًا من زيادة الضرائب أو تحمل مسؤولية مالية مشتركة عن الدول الأخرى.
4- تمويل الاستثمارات الضرورية: أشار دراغي إلى أن القطاع الخاص وحده لن يكون قادرًا على تمويل الاستثمارات المطلوبة من دون دعم آتٍ من القطاع العام. بالتالي، ربما تحتاج أوروبا إلى تمويل مشترك من خلال أصول آمنة أوروبية أو ضرائب جديدة على مستوى الاتحاد. على الرغم من معارضة بعض الدول لهذه الفكرة، يُعد التمويل العام ضروريًا لتحقيق أهداف الاتحاد.
ترامب والاقتصاد الأوروبي
إن عاد المرشح الحالي والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ربما تتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فسياسة ترامب القائمة على شعار "أميركا أولاً" قد تؤدي إلى فرض رسوم جمركية جديدة أو تقليص التعاون الاقتصادي بين ضفتي الأطلسي، ما يزيد من الضغوط على أوروبا، خصوصاً من جهّة قطاعها الصناعي، وميزانها التجاري.
إضافة إلى ذلك، قد تزيد عودة ترامب التوترات الجيوسياسية، ما يعمق الأزمة الاقتصادية في أوروبا.
في المحصّلة، تتطلب أزمة الاتحاد الأوروبي الاقتصادية تحركًا سريعًا وموجهًا من خلال استثمارات ضخمة وسياسات اقتصادية جديدة. فالحرب الروسية - الأوكرانية زادت من تعقيد الوضع، وعودة ترامب إلى كرسي الرئاسة في أميركا قد تضيف طبقة أخرى من التعقيد. يتطلب الحلّ تنسيقًا بين القطاعين العام والخاص، وتوحيد الجهود على مستوى الاتحاد، لتحقيق النمو والازدهار المستدام، وبعض التغييرات في السياسات الخارجية لاسيما من ناحية العلاقة مع روسيا.