في ظلّ التطورات الاقتصادية المتسارعة التي يشهدها العالم، سجل الاقتصاد السعودي رقماً قياسياً في مستويات السيولة المالية، حيث بلغ "عرض النقود ن3" أعلى مستوياته على الإطلاق، مسجلاً 2,936 تريليون ريال سعودي، أي ما يوازي 772,6 مليار دولار، بنهاية الأسبوع الأول من أيلول (سبتمبر) 2024.
ووفقاً لبيانات البنك المركزي السعودي (ساما)، ارتفع عرض النقود 1.32% خلال الأسبوع الماضي، مقارنة بما قبله، و9.33% منذ مطلع العام، في إنجاز يعكس قوة النظام المالي السعودي وملاءته، في وقت تستعد فيه الأسواق العالمية لتغيرات جوهرية على وقع خفض الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة التوقع في 18 و19 أيلول (سبتمبر) الجاري.
ماذا تعني سيولة الاقتصاد؟
سيولة الاقتصاد هي قدرته على تلبية الطلبات النقدية المختلفة، من خلال النقد المتداول أو الودائع المصرفية التي يمكن تحويلها بسهولة إلى نقد.
يقول نايل الجوابرة، كبير استراتيجي الأسواق في VTmarkets، لـ"النهار" إنّ سيولة الاقتصاد تعني وفرة الأموال داخل الاقتصاد المحلي، خصوصاً في البنك المركزي، أي زيادة نسب الأموال عما كانت عليه في السابق، "وعرض النقود ’ن3‘ هو المقياس الرئيسي للسيولة في الاقتصاد السعودي، ويشمل مجموعة من المكونات مثل النقد المتداول خارج المصارف، والودائع تحت الطلب، والودائع الزمنية والادخارية، والودائع الأخرى شبه النقدية، وهذا المقياس مؤشر مهم على مدى توفر الأموال في النظام المالي، وسهولة تحويلها إلى أموال سائلة للاستهلاك والاستثمار".
أي عوامل.. وأي فوائد؟
من أبرز العوامل التي دفعت سيولة الاقتصاد السعودي إلى هذا المستوى القياسي هو الارتفاع في الودائع الزمنية والادّخارية. يقول الجوابرة: "نتج ذلك من ارتفاع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوياتها خلال أكثر من عقدين، عند 5.5%، وهذا مستوى قياسي بالنسبة إلى الدولار، لذا وجّه مستثمرون كثيرون أموالهم نحو الودائع الادّخارية والزمنية التي تقدم عوائد أفضل، مقارنة بأشكال الاستثمار الأخرى".
يضيف الجوابرة: "إن التوقعات بخفض الفائدة الأميركية المتوقّع قريباً دفعت بالعديد من المستثمرين إلى زيادة استثماراتهم في الودائع، للاستفادة من العوائد الحالية قبل تراجع أسعار الفائدة... ومع ارتفاع الاقتراض على الدولار وارتفاع الفائدة على العوائد، ترتفع العوائد في منطقة دول الخليج لارتباطها عملاتها بالدولار".
مع اقتراب موعد خفض الفائدة الأميركية كما هو متوقع، فإن سيولةً كبيرة في الاقتصاد السعودي تعدّ عاملاً مهماً، "حيث ستتمكن المصارف السعودية من تعزيز عمليات الإقراض للشركات والأفراد بأسعار أقل، وهذا يعني أن الاقتصاد السعودي سيكون في وضع جيد للاستفادة من الانخفاضات المحتملة في الفائدة، من خلال تعزيز الاستثمار والنشاط الاقتصادي بشكل عام"، كما يقول الجوابرة، مضيفاً: "ومع توفّر القروض بشروط أفضل، تتوسّع الأنشطة التجارية وتنمو الاستثمارات في مختلف القطاعات، ما يعزز الأداء الاقتصادي الكلي".
الدخل الفردي والمؤشر الاستهلاكي
يؤكد الجوابرة أن وفرة السيولة تؤثر بشكل مباشر على الدخل الفردي ومستوى المعيشة، "فعندما تكون السيولة متوفرة بكميات كبيرة، تتمكن الشركات من زيادة إنتاجيتها، ما يؤدي إلى زيادة الأجور وخلق فرص عمل جديدة، وبالتالي يزيد الإنفاق الاستهلاكي، وهذا ما يحفّز الشركات على الاستثمار والتوسع، وبالتالي تزيد رفاهية الأفراد ويتحسّن مستوى المعيشة"، مؤكداً أنها سلسلة اقتصادية متكاملة.
إلى ذلك، زيادة الإنفاق الاستهلاكي ترفع الطلب على السلع والخدمات، "لكن يجب التحكم في العرض بشكل متوازن، إذ يؤدي الإخلال في هذا التوازن إلى ضغوط تضخمية، ما يرتدّ سلباً على قوة المواطن السعودي الشرائية"، كما يحذّر الجوابرة، مضيفاً أن حفظ التوازن بين العرض والطلب في ظل ارتفاع السيولة "أمر حاسم" للحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق التنمية المستدامة.
انعكاس خليجي
لا تقف الزيادة في سيولة الاقتصاد السعودي عند حدود المملكة، بل تمتد تأثيراتها إلى دول مجلس التعاون الخليجي، نظراً إلى الترابط الوثيق بين اقتصاداتها.
ومع توفر السيولة وزيادة الاستثمارات في المملكة، قد تجذب الاستثمارات رؤوس أموال إضافية من دول الجوار، ما يؤدي إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين دول الخليج. كما يمكن أن تساهم وفرة السيولة في تحفيز التجارة البينية وزيادة حجم الاستثمارات المشتركة في مشاريع البنية التحتية والطاقة والقطاعات الحيوية الأخرى.
يقول الجوابرة: "ستتاثر كل دول الخليج، إذ ستسعى إلى الاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة وستضخ السيولة في قطاعها المصرفي، ما يحقق قوّة اقتصادية داخل كل دولة بذاتها، ما ينعكس إيجاباً على ناتجها المحلي".
ختاماً، تمثل سيولة الاقتصاد السعودي عنصراً أساسياً في استقرار الاقتصاد المحلي والإقليمي ونموه، حيث تؤدي دوراً محورياً في تحفيز الاستثمار، وزيادة الإنفاق الاستهلاكي، وتعزيز مستويات المعيشة، كما تشكل عاملاً استراتيجياً في مواجهة التغيرات الاقتصادية العالمية.