خالف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي التوقعات وأعلن عن خفض أسعار الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس، لتصل إلى نطاق 4.75-5%، في أول خفض من نوعه منذ أكثر من 4 سنوات. وكان هذا القرار محل جدل كبير، خصوصاً أن الأسواق توقعت خفضاً أكثر تواضعاً، بحدود 25 نقطة أساس فقط.
فما الأسباب الكامنة وراء هذا القرار، وكيف أثر في الأسواق المختلفة؟
لا ركود
أشار جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى أن القرار يأتي في ظلّ تراجع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، حيث انخفض التضخم السنوي في آب (أغسطس) إلى 2.5%، وهذا أدنى مستوى له منذ ثلاث سنوات ونصف. كما أظهر سوق العمل الأميركي بعض الضعف، مع ارتفاع معدلات البطالة. ورغم ذلك، فإن الفيدرالي يهدف من هذا الخفض إلى دعم الاقتصاد في مواجهة أي تباطؤ محتمل وتحقيق أهداف التوظيف والتضخم.
وأشار الفيدرالي إلى أن التضخم "بات أقرب إلى النسبة المستهدفة عند 2%، وأن مخاطر عودة التضخم للارتفاع تراجعت بشكل ملحوظ". وبناءً على هذه المعطيات، اتخذ هذا القرار الاستباقي لدعم الاستقرار الاقتصادي.
في هذا الإطار، يقول محلل الأسواق المالية خالد جمال الخطيب لـ"النهار" إنّ الخوف من الركود الاقتصادي تراجع في الولايات المتحدة، "لكن ما هو أشد إثارة للقلق هو الخوف من التضخم الركودي".
ويضيف الخطيب: "قد يردّ هذا الأمر إلى بقاء السياسة المالية توسعية، فإذا كان خفض أسعار الفائدة (السياسة النقدية) قوياً، فربما يؤدي إلى ارتفاع مستويات التضخم مرة أخرى"، معتبرا أنّه مهمٌّ أيضًا متابعة بيانات التوظيف في الولايات المتحدة، إضافة إلى أرقام التضخم، وتحديداً التضخم في تكاليف السكن.
ماذا عن الأسواق؟
بحسب الخطيب، عندما تخفض دولة ما أسعار الفائدة، "فإن هذا يترك آثاراً سلبية على عملتها، وإيجابياً على الأسهم، حيث يقترض التجار والمؤسسات المالية الأموال بمعدل منخفض، وتُستثمر في أصول ذات مخاطر أعلى وعوائد أعلى".
وعليه، ارتفعت أسعار الذهب بشكل كبير، حيث سجلت الأونصة أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 2,592.39 دولار، بعد قرار الفيدرالي. فالخفض الكبير للفائدة يعني تقليل تكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ بالذهب الذي لا يدرّ عائدًا، ما يزيد من جاذبية الاستثمار فيه. وبعد قرار الفيدرالي، جعل انخفاض الدولار الذهب أكثر جاذبية للمستثمرين الذين يحملون عملات أخرى.
في المقابل، تراجعت أسعار النفط وسط مخاوف من تباطؤ الاقتصاد الأميركي، رغم خفض الفائدة. فحتى لو عزز خفض أسعار الطلب على الطاقة، فإن إشارات ضعف سوق العمل أثارت خوفاً من تراجع النمو الاقتصادي، فهبطت عقود خام برنت إلى 73.65 دولاراً للبرميل، مع استمرار المخاوف الاقتصادية.
ورغم الانخفاض الأولي للدولار بعد خفض الفائدة، فسرعان ما تعافى في التعاملات الآسيوية المبكرة، إذ ارتفع الدولار بنسبة 0.58% مقابل الين الياباني واستعاد بعض مكاسبه مقابل سلة من العملات العالمية. ويعكس هذا التفاعل المتقلب رغبة المستثمرين في الحفاظ على الدولار ملاذاً آمناً وسط حال من عدم اليقين تهيمن على الأسواق العالمية.
وشهدت البورصات الأميركية تقلبات حادة بعد قرار الفيدرالي، حيث ارتفعت مؤشرات "ستاندرد آند بورز 500" و"داو جونز" في البداية قبل أن تتراجع وتفقد مكاسبها. ورغم الترحيب بخفض الفائدة، فإن المتداولين أبدوا مخاوف من أن يعكس القرار ضعفًا اقتصاديًا محتملًا. وفي أوروبا، تراجعت الأسهم أيضاً حيث انخفض مؤشر "ستوكس 600" الأوروبي بنسبة 0.5%.
تفاوت مركزي خليجي
اقتفت البنك المركزي في كل من الإمارات والبحرين أثر الفيدرالي الأميركي وخفض الفائدة بمعدل 50 نقطة أساس، وخفض المركزي القطري الفائدة بمعدل 55 نقطة أساس، فيما اكتفى المركزي الكويتي بخفض مقداره 25 نقطة أساس.
ويعود تباين مستويات خفض الفائدة بين البنوك المركزية الخليجية إلى عوامل عدة، تتعلق بخصوصية الاقتصاد في كل دولة، والسياسات النقدية المتبعة. ورغم الارتباط الوثيق لعملات معظم دول الخليج بالدولار الأميركي، وتأثير قرار الاحتياطي الفيدرالي على اقتصادات المنطقة، فإن لكل دولة خليجية ظروفًا اقتصادية محلية تجعلها تتخذ قرارات نقدية مختلفة.
وجاء هذا في سياق تباطؤ التضخم في العديد من دول الخليج، مثل الكويت التي شهدت تراجع التضخم السنوي إلى 3% في تموز (يوليو) 2024. وعلل الخطيب ذلك بـ"ارتباط عملات الدول العربية بالدولار"، واصفا توجّه البنوك المركزية نحو تخفيض الفائدة بـ"تأثير الدومينو".
ماذا بعد؟
يقول الخطيب: "علينا مراقبة مؤشر الدولار وعوائد سندات الخزانة والمؤشرات الأميركية في الأيام المقبلة لمعرفة ما إذا كانت الأسواق ستفسر هذا الخفض في الأسعار على أنه خوف أم تفاؤل، خصوصاً أن مؤشر الدولار لم يغلق عند مستوى منخفض جديد بعد، أو أن المؤشرات الأميركية لم تغلق عند مستوى مرتفع جديد"، متوقّعاً أن "نشهد خفضين إضافيين لأسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في الاجتماعات المتبقية للفيدرالي في عام 2024"، وبهذا ننهي العام بإجمالي تخفيضات في أسعار الفائدة بنسبة 1%.
يوفر خفض الفائدة بعض التخفيف المالي، لكنه لن يحدث تغييرات كبيرة في الأجل القصير. ومع هذا الخفض، قد يشعر المستهلكون بتخفيف في تكاليف الاقتراض، ولكن التأثير سيكون تدريجيًا. ومتوقعُ أن تنخفض معدلات الفائدة على بطاقات الائتمان تدريجيًا، بعد أن ارتفعت إلى أكثر من 20% في السابق، وبالتالي يُنصح المستهلكون بالتركيز على سداد ديون البطاقات ذات الفائدة العالية.
وبينما تأثرت الرهون العقارية الثابتة بشكل غير مباشر بسياسات الفائدة، (المعدلات الحالية عند 6.3%) فمن غير المتوقع أن تعود إلى مستويات منخفضة كما في فترة جائحة كورونا، فيما يتوقع أن يساهم خفض الفائدة في تقليل تكاليف قروض السيارات (ارتفعت إلى أكثر من 7%)، وإن كان بشكل طفيف.
أما عن قروض الطلاب، فيُذكر أن معدلات القروض الفيدرالية ثابتة، لكن القروض الخاصة قد تنخفض بسبب ارتباطها بسندات الخزانة. وبعد أن أدت الارتفاعات السابقة في أسعار الفائدة إلى رفع عوائد الادخار لتصل إلى 5%، متوقعٌ أن تنخفض هذه المعدلات تدريجيًا. لذا، يُنصح المدخرون بالاستفادة من حسابات الادخار وشهادات الإيداع قبل تراجعها.