تعاني الصين من ضغوط كبيرة على اقتصادها المتباطئ في ظل تزايد التحديات المحلية والدولية، ما دفع الحكومة إلى إطلاق حزمة تحفيزية تهدف إلى تحقيق النمو المستهدف بنسبة 5%، وهو ما يواجه صعوبة كبيرة في الأوضاع الراهنة. ففي نهاية عام 2023، غرقت البلاد في حالة انكماش لمدة أربعة أشهر، مع أكبر انكماش في التضخم منذ 14 عامًا في كانون الثاني (يناير).
حجم التضخم وتباطؤ النمو
تأتي الأزمة الحالية على خلفية عوامل عديدة. فوفقاً للإحصاءات الأخيرة، ارتفع معدل البطالة إلى 5.3%، وهو أعلى مستوى له منذ ستة أشهر. وارتفعت البطالة بين الشباب إلى 17.1%، وهو مؤشر الى تدهور الوضع الاقتصادي وزيادة الضغوط على سوق العمل. إلى جانب ذلك، تباطأت كل مقاييس الإنتاج الصناعي والاستهلاك والاستثمار أكثر من المتوقع، ما يشير إلى أن الصين تواجه ضغوطًا اقتصادية متزايدة. وكانت بيانات رسمية أظهرت ارتفاع التضخم في الصين بشكل طفيف في آب (أغسطس) مسجلا أعلى مستوى له في ستة أشهر، لكن القراءة جاءت دون التوقعات ولم تقدم الكثير لتهدئة المخاوف بشأن الإنفاق البطيء في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
أسباب الأزمة
أسباب عدة تفسر الأزمة الاقتصادية في الصين أولها أزمة القطاع العقاري الذي كان يشكل نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو حالياً يعاني من ركود كبير. ودفعت إجراءات الحكومة المتشددة على قروض المطورين بعض الشركات الكبرى مثل "إيفرغراند" و"كانتري غاردن" إلى حافة الإفلاس، ما أدى إلى انخفاض كبير في ثقة المستثمرين والمستهلكين على حد سواء.
من جهة أخرى، أدى ارتفاع الديون الحكومية، خصوصاً على المستوى المحلي، نتيجة للتوسع في تطوير سوق العقارات، إلى تفاقم الوضع المالي. وتزامنت هذه الديون مع زيادة حالات التخلف عن سداد القروض وصعوبات سداد مشاريع مبادرة "الحزام والطريق".
وتعتمد الصين بشكل كبير على قطاعي التصنيع والتصدير، اذ تمثل الصادرات حوالى 60% من إجمالي الاقتصاد. ولكن مع تباطؤ الاقتصاد العالمي وزيادة المنافسة، تأثر قطاع التصنيع الصيني بشكل كبير، ما قلل من حجم الصادرات.
وأخيرا أدى ضعف شبكة الأمان الاجتماعي إلى قلة الإنفاق الاستهلاكي الذي يمثل 53.4% فقط من الناتج المحلي الإجمالي للصين، وهو أقل بكثير من المتوسط العالمي البالغ 72%.
السياسات التحفيزية
استجابة لهذه التحديات، أعلنت الحكومة الصينية حزمة من السياسات التحفيزية التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي والعودة إلى مسار النمو، يعدد بعضا منها رئيس معهد "طريق الحرير للدراسات والأبحاث – كونفوشيوس"، وارف قميحة لـ"النهار" ويذكر:
- 1 خفض سعر الفائدة، اذ خفض البنك المركزي الصيني سعر الفائدة الرئيسي القصير الأجل إلى 2%، وهو أدنى مستوى له منذ عام 2018. هذا التخفيض يهدف إلى تشجيع الاقتراض والاستثمار في السوق المحلية.
- 2 خفض حجم الاحتياطي الإلزامي للبنوك: لتشجيع الإقراض وتوفير السيولة، خفضت الحكومة حجم الاحتياطي الإلزامي الذي يجب أن تحتفظ به البنوك، ما حرر نحو تريليون يوان (142 مليار دولار) للإقراض الجديد.
- 3 دعم قطاع العقارات: أعلن البنك المركزي تخفيض تكاليف الاقتراض الى ما يصل إلى 5.3 تريليون دولار من الرهون العقارية، بالإضافة إلى تخفيف القواعد المتعلقة بشراء المنازل الثانية، ما يهدف إلى تحفيز سوق العقارات المتعثر.
- 4 المساعدات للفقراء: في خطوة غير مسبوقة، أعلنت الحكومة الصينية تقديم مساعدات نقدية للأشخاص الذين يعانون من الفقر المدقع، بما في ذلك الأيتام وغيرهم من المحتاجين، قبل الاحتفال باليوم الوطني.
- 5 إنشاء صندوق استقرار السوق: لتخفيف الضغوط على سوق الأسهم، أعلن البنك المركزي توفير 800 مليار يوان (113 مليار دولار) لدعم السيولة، بالإضافة إلى دراسة إنشاء صندوق استقرار السوق.
تأثير السياسات على الاقتصاد العالمي
تحسن الاقتصاد الصيني بفضل هذه الحزمة قد يكون له تأثير إيجابي على الاقتصاد العالمي، بخاصة في أوروبا التي تعتمد على بعض المواد الأولية من الصين. كما ارتفعت أسعار النفط بنسبة 2% بعد إعلان هذه السياسات التحفيزية، ما يعزز الآمال في تحسين الأوضاع الاقتصادية العالمية. ومع ذلك، لا تزال هناك مخاوف من استمرار التوترات الجيوسياسية، مثل الحرب الروسية الأوكرانية التي قد تؤثر على فعالية هذه الحزمة التحفيزية.
ورأى قميحة أنّ "تحقيق الصين نموًا بنسبة 5% في النصف الأول من عام 2024 يُظهر مرونة الاقتصاد الصيني في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. وعلى رغم تباطؤ النمو في الربع الثاني، اسهم الدعم الحكومي وانتعاش الطلب الخارجي في استقرار الأداء الاقتصادي. وتواصل الصين تعزيز تطوير القوى الإنتاجية الحديثة، مع التركيز على الابتكار وتحفيز الاستهلاك المحلي كركائز أساسية للنمو المستدام".
وأضاف ان "هذا الأداء الاقتصادي يعكس التوازن الدقيق بين النمو المستهدف والسياسات التحفيزية التي تبنتها الحكومة الصينية. ومن الواضح أن الصين تواصل إدارة تحولات اقتصادية كبيرة، سواء من لجهة تعميق الإصلاحات الهيكلية أم لجهة مواجهة التحديات البيئية والظروف الخارجية المعقدة. لكن يجب أن نلاحظ أن استمرار الاعتماد على الاستهلاك المحلي والابتكار التكنولوجي قد يكون مفتاحا للتغلب على التحديات الطويلة الأجل. ومن خلال هذا النموذج، تسعى الصين لتعزيز مكانتها كقوة اقتصادية عالمية من دون أن تغفل عن تحسين حياة المواطنين وتحقيق التنمية المستدامة".
تحديات المستقبل
لكن، على رغم الحزمة التحفيزية، لا تزال الصين تواجه تحديات كبيرة، من بينها، الانكماش الطويل الأمد، فالتباطؤ المستمر في الاقتصاد قد يتطلب سياسات أكثر جرأة لتجنب الركود، خصوصاً في ظل تزايد التحديات في القطاع العقاري والبطالة المرتفعة.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، هناك احتمال لتجدد الحروب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، ما يزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي.