الأسطورة تحكي لنا تخيّلات الشعوب وتمثيلاتها، تنقل ما لا يقصّه التاريخ، فهي تعرض علينا، في غفلة منّا، ما تحمله الذاكرة البعيدة عبر رموز وإشارات. تقبض على جوهر الأشياء، لشعب أو لحقبة، وتنبئنا بما يغيب عنّا في حياتنا القصيرة الغاربة.
لطالما سحرتني الأساطير، سحر الخيال المجبول في كلمات تحملنا على أجنحتها الرقيقة والهشّة والشفافة إلى عوالم نجهلها فتفتح آفاقًا ورؤى.
كتبت في عام 2013، والحرب في سوريا في عامها الثاني، تعليقًا على "فايسبوك" عن أسطورة رع وإيزيس سيدة الحكمة ومعالجتهما لعنف آلهة الحرب "سخمت"، أعاد "فايسبوك" تذكيري بهذا التعليق الأسبوع الماضي فأعدت نشره. فتمنّى بعض أصدقائي من القراء لو أني أعيد كتابته وأعلق على شاربي الدم الذين يحيطون بنا.
في مقال للكاتبة سميا رمضان، في عام 2013، أشارت إلى رواية الخلق بحسب الأسطورة المصرية عن رع، التي تشكّل إحدى روايات الخلق وكيفية ظهور الحضارة.
تقول الأسطورة إنّ زهرة اللوتس كانت ساكنة في قاع الماء. ولمّا ظهر أول شعاع للشمس على الدنيا استشعرت الزهرة الدفء، وبدأت تصعد إلى السطح.
وكان السطح مسكوناً بالوحوش والثعابين المائية التي كانت تتصادم فى صراع مستميت من أجل الهيمنة على البحر الهائج. ما يشير إلى حال الفوضى قبل ظهور الحضارة.
لما استوت اللوتس على صفحة الماء، فتحت بتلاتها وفردتها لامتصاص دفء الشمس وضوئها الذي كان يمثّله رع.
ثمّ ظهر وسط الزهرة طفل من نور يضع سبابته على شفتيه. وفي الحال هدأ الصراخ والعويل، وسكنت أصوات الوحوش، وتلاشت من على صفحة الماء. فهدأ بحر الفوضى، وساد الكون السكون اللازم لبناء الحضارة.
بحسب الأسطورة، فإنّ رع خلق كلّ أشكال الحياة. وخلق الإنسان من دموعه وعرقه. فأطلق المصريون على أنفسهم "أنعام رع". وهو كان يدعوهم "أبناء دموعي".
لمّا هاجمت "سخمت"، آلهة الحرب، البشر لجرم ارتكبوه، وعلم رع أنها شربت من دماء أبناء دموعه، وراق لها طعم الدماء، فصارت تبحث عن المزيد. أرسل وراءها سيدة المعارف والحكمة، "إيزيس"، التي قامت بخداعها، فجعلت لها بحارًا من شراب قويّ مسكّر بلون الدم. أفاقت منه "سخمت" ورأسها به صداع شديد، ومن يومها كرهت الدماء!
والأساطير عموماً مفعمة بالمعاني. وفي أسطورة رع، سيدة المعارف والحكمة، "إيزيس"، عالجت دموية "سخمت"، آلهة الحرب، بالشراب الملهم اللذيذ فجعلتها تستبدل تذوّقها لدماء البشر بهذا الشراب القويّ المسكّر بلون الدم. ربما هذا ما يفسر الشخصية المسالمة التي تغلب على المصريين.
ويبدو أنّ هناك اتفاقًا على وجود صلة ما بين الدم والنبيذ. فـ"غالينوس" بعد أن يصف النبيذ كغذاء محمود ينقّي البدن من الأوساخ ويفتح ما في العروق من الانسداد، ولا يدع خلطًا يعفن في البدن، يضيف أنّ الأحمر منه يولد دمًا كثيرًا، وكلّما اشتدّت حمرته كلما كان توليده للدم أكثر فعالية.
وهكذا إذا كان استبدال إيزيس للدم بالخمرة هو التجربة الأولى في التاريخ لإحلال النبيذ مكان الدم.
والنبيذ روح الآلهة وعزاء الفنّانين. وهو مشروب له قدرة إبعاد الهموم عنّا ومنحنا، ولو مؤقّتًا، رؤى الجنة.
أيضاً ارتبط النبيذ، بحسب إنجيل القديس لوقا، بالمعجزة الأولى التي حدثت في قانا الجليل خلال عرس حضره يسوع وأمه وتلامذته. إذ تقدمت منه أمه في منتصف العرس وقالت له إن النبيذ نفد، وعندئذ أمر يسوع بملء ستّ جرار ماء، ولما صبّ الخدم الماء في الكؤوس اكتشفوا أنه نبيذ.
أليس من مغزى لنا في أن أوّل معجزة ليسوع، كانت في توفير النبيذ الأحمر القاني؟ يسوع الذي يدعو للحب والسلام وينصح بأن ندير الخد الأيسر إذا ما ضُربنا على خدنا الأيمن؟
فمن يقنع الجلادين الذين لا يشبعون من إراقة الدماء في المنطقة، التي لو جمعنا ما سُكب فيها من دماء لتلوّن تراب أرضها أحمر قانيًا، أن يستبدلوا الدم بالنبيذ؟ علّ عطشهم للدم والقتل يهدأ قليلا في نواحينا، بدءًا من أوكرانيا، مرورًا بما يعرف بالهلال الخصيب وصولًا إلى ايران، وإسرائيل في المقدمة.
وعلى أمل أن تزهر دماء الضحايا، قريبًا، زهورًا على غرار ما جاء في أسطورة أدونيس التي استبدلت الدم المراق بزهرة، لونها هي أيضًا أحمر قانٍ بلون الدم.
فأسطورة أدونيس، وهي من أقدم أساطير آلهة الخصب والحب والحرب، تقول، بحسب رواية "أوفيد": "عندما كبر أدونيس تعلقت به عشتروت، وأصبحت رفيقته تصحبه أينما ذهب؛ حذّرته من الوحوش، قائلة: "لا تأمن الحيوانات التي تتعرّض لك. ولا تكن طائشًا فتتعرّض للحيوانات التي زوّدتها الطبيعة بأسلحة، فليس لشبابك ومجدك وجمالك وسحرك الذي يفتن عشتروت وجميع النساء، أيّ أثر على الأسود والخنازير البرية المشعثة الشعر'".
وفي أحد الايام خرج أدونيس للصيد دون حذر فهاجمه خنزير برّي. وعندما علمت عشتروت هرعت إليه ولكنها لم تنجح في تضميد جراحه. فقامت بسكب رحيق زهرة عطرة عليه، ولم يكد يمسّه السائل حتى أخذ الدم يغلي ويفور، وتصاعدت منه فقاعات صافية. ولم يمض كثير من الوقت حتى انبثقت زهرة بلون الدم المسكوب على الأرض، بهية ورقيقة وهشّة كزهرة الرمان. إنّها زهرة شقائق النعمان.
لا شكّ أنّ دماء مهسا أميني، وجميع الضحايا، ستتحوّل إلى زهور حمراء لتحمل معها الربيع القادم رغم كلّ ما يقوم به الطغاة الذين لا موئل لهم إلّا السقوط مهما تأخّر الوقت.
علّ هذه السنة الجديدة تحمل الخير لهذا العالم المضطرب.
*نُشر أيضاً في الحرّة