قرأت تعليقاً يستغرب قلّة اهتمام الشعوب العربية عموماً بما يحدث في إيران. يقول المثل: "ينفخ في اللبن من اكتوى بالحليب". فعدا عن أن الشعوب العربية "اللي فيها مكفّيها"، بعد أن قام بعضها بثوراته وأفشلها القمع بوسائل شتى، يظلّ السؤال بماذا سيفيد تظاهرها؟ الضغط على حكوماتها التي تعاديها أصلاً إيران وتتنمّر عليها وتتدخّل في شؤونها؟
أو أن يتظاهر من يقع تحت هيمنة إيران التي تعبث بأمنه وعيشه ومستقبله عبر وكلائها الذين يقومون بكلّ ما يستطيعون لإخضاع بلدانهم لمصلحة نظامها؟! ولو أدّى ذلك إلى تفكيك دولة بلد عريق كالعراق، الذي كان مهد ظهور أولى الدول في التاريخ؟ أو تهجير نصف الشعب السوري وتقسيم سوريا وجعلها ساحة لشتى الاحتلالات، كي يبقى نظامها الحليف لإيران؟ أو تمكين حزب الله لأخذ لبنان رهينة لمصلحة إيران ولو مات شعبه جوعاً؟!
هناك معادلة بسيطة تفيد بأن عليك أن تكون حراً كي تتمكّن من الدفاع عن الحرية!".
التظاهر مفيد حيث يُمكن للضغط أن يؤثر على الحكومات الغربية وعلى سياساتها المتراخية تجاه النظام الايراني المستبدّ.
منذ نحو العقدين وتحرّكات الشارع الإيراني لا تهدأ. تتخلّلها ثورات أو انتفاضات كتلك التي حصلت في 2009 و2017 و2019، وما بينهما تظاهرات مستمرة مطلبيّة وقطاعيّة. جميعها تُقمع بوحشية وبفرض المزيد من الرقابة، والعالم يتفرّج.
ولأنّ أيّ تغيير فعليّ في لبنان لن يحصل قبل أن يسبقه تغيير مماثل في إيران؛ ولأن في لبنان رواسب حرية، قرّرت النساء اللبنانيات الشجاعات التظاهر دعماً للنساء الإيرانيات، للضغط على السلطة الحليفة لإيران في لبنان.
ربما لأن المظاهرات المندلعة الآن تفتح نافذة أمل. فمقتل مهسا أميني، (واسمها الأصلي جينا الذي رفضته السلطات، ومعناه الحياة بالكردية) على يد شرطة الأخلاق بسبب خصلة شعر ظهرت تحت حجابها، أشعل غضب الإيرانيات اللواتي يعانين من القمع منذ 40 عاماً. لقد أُقْصين تماماً عن المجال العام مع أنّهن شاركن في إنجاح ثورة الملالي. سُلبت حقوقهنّ التي كانت متوفّرة أيام الشاه، وطالهن قمع النظام للرجال مضاعفاً.
الجديد في الاحتجاجات الحالية شمولها مختلف المدن والبلدات الإيرانية في معظم أرجاء البلاد ومختلف المكوّنات العرقيّة والشرائح الاجتماعية ومختلف الأجيال، خصوصاً جيل الميلينيوم الشاب الذي ينتمي لثقافة عالميّة منفتحة عابرة للحدود والقيود. طفح به الكيل، ويرفض الخضوع لحكم الملالي البالي، الذي يحول دون حقّه بالاندماج في العالم.
لقد تحوّلت مهسا أميني إلى رمز ومحفّز لثورة الإيرانيين. أطلقت حركة اعتراض شامل ضدّ إلزامية الحجاب كوسيلة لاضطهاد النساء وهدر حقوقهن وإعاقة مشاركتهن في سوق العمل وإلزامهن بسياسة إنجاب تناسب الولي الفقيه، وتحدّ من قدراتهن على حريّة تنظيم النسل وتحظر الإجهاض، مع ترويج للزواج المبكر.
خرج الإيرانيّون نساء ورجالاً إلى الشارع رافعين شعار: "امرأة، حياة، حرية"، في عمليّة ربط بين حقوق النساء والحريّة والحياة نفسها. فكلّ بيت في إيران يعاني من اضطهاد نسائه.
طفح كيل الإيرانيين من النظام القمعيّ الذي لم يتورّع رئيسه عن رفع صورة قاسم سليماني من على منبر الأمم المتحدة، فيما يتحدّث عن "الحريات". في نفس الوقت يُوجَّه رصاص البسيج والحرس الثوري إلى رؤوس النساء والرجال المتظاهرين، لأنهم يحرقون صور سليماني والخامنئي في طهران رافعين هتافات الموت للديكتاتور.
قد ينجح النظام الإيراني في قمع الاحتجاجات الحالية مجدّداً، لكن يصعب القضاء عليها طالما أنها صارت تطرح شرعيّة النظام نفسه، وتطالب بالحقوق الأساسية من حريّات شخصيّة ومدنيّة وسياسية واجتماعية، إلى جانب أنها المرة الأولى التي تثور فيها النساء على السلطة.
هذا، ولا يغيب عن بالنا أنها لحظة دقيقة للنظام ومستقبله في تعامله مع العالم الغربيّ، بينما يعاني من تباينات في داخل صفوفه وصراعات خفيّة على إرث الخامنئي الذي يُعاني من وضع صحيّ دقيق. ولقد تظهّرت خلافاتهم في مواقفهم المتناقضة في مباحثات الاتفاق النووي مع الغرب، وفي تعاملهم مع التظاهرات نفسها، حيث ينقل موقف مختلف للجيش ربّما يمكن أن يعوّل الشعب الإيراني عليه.
الخوف الآن من أن يستغلّ النظام الغربي وإيران الأحداث لتسريع إبرام الاتفاق النووي على حساب الشعب الإيراني.
على كلّ، ما كان للثورات أن تفشل، ولا للنظام أن يستمرّ لولا تساهل الغرب وتهاونه في التعامل مع إيران، وفي التغاضي عن ممارسات القمع والاضطهاد والقتل والإعدامات في الداخل الإيراني، وغضّ بصره عن توسّعها وتدخّلها في جميع دول الإقليم وإعلان احتلالها، ناهيك بممارسات الإرهاب المشهودة في سائر أنحاء العالم وفي داخل الدول الأوروبية والأميركية تحديداً.
إيران تقصف من تنعتهم بالمعارضة في إقليم كردستان في العراق. فبماذا تختلف ممارسات إيران عن ممارسات إسرائيل؟ على الأقلّ إسرائيل لا تتباهى بقتل المدنيين.
هناك بوادر تغيّر في الموقف الغربي مؤخّراً؛ فلقد أطلق المسؤولون الأميركيّون وبعض قادة أوروبا تصريحات داعمة للمحتجين في إيران، ومنتقدة لسلوك السلطات فيها، كما أعفت واشنطن الإنترنت من العقوبات، وهناك إمكانية أن يوفّره إيلون ماسك إذا استطاعوا التشبيك مع ستارلينك.
حتى الأوروبيون، والألمان خصوصاً، بدأوا بتغيير لهجتهم. لقد كانت لافتة الدعوة التي صدرت عن المدير السابق لوكالة الاستخبارات الفيدرالية لدعم حكومة اليمن الشرعية: "يجب دعم الحكومة في اليمن لأننا نرى تدخّل إيران هناك، ونعرف أنه من دون هذا التدخّل لما كنّا نشهد الصراع الذي نشهده فيها". كما اعترفت النائبة عن حزب الخضر في البرلمان الأوروبي هانا نويمان بأن "ألمانيا وأوروبا صمتتا لفترة طويلة عن إدانة اعتداءات الحوثيين على السعودية". وذهبت إلى أبعد من ذلك عندما قالت: "علينا تقبّل بعض الاتهامات الموجّهة إلينا من الدول الخليجية، فنحن لم نفهم التهديد الإيراني في المنطقة".
لكن تبجّح النظام الإيراني لا حدود له، فبالرغم من تصدّي السلطات الباريسية والبريطانية للمتظاهرين أمام السفارة الايرانية، يعتبرون أن الأوروبيين والأميركيين "يستغلّون مقتل مهسا أميني". ويندّد الناطق باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، بالمواقف الأميركية والأوروبية، واصفاً إيّاها بـ"التدخل" في الشؤون الإيرانية، معتبراً أنّهم "أعداء"، ويمارسون "النفاق وازدواجية المعايير".
يبدو أنهم يريدون غرباً على شاكلتهم، يمنع التظاهرات من أصلها!
كتبت الإيرانية المعارضة، شاهدورت دجافان منذ العام 2009 ما يأتي: "أعلن الدليل: لا تسمحوا بتدمير البنية الصلبة للنظام، إذا لاحظتم أن أحداً يلحّ كي يزرع الفوضى ويتسبّب بالنزاعات، فاعلموا أنه إما خائن أو جاهل". وكي أتحدث كالدليل، لأنني نشأت في أحضان الملالي، أقول لكم، أعزائي القياديين الغربيين: "إذا ألحّ أحد ما من محيطكم على الحوار مع هذا النظام لتشجيع الإصلاحيين، فاعلموا أنه إمّا خائن أو في منتهى الجهل. المشكلة في بنية النظام وفي إيديولوجيّته نفسها".
لكن أحداً لم يستمع حينها، على أمل أن يستمعوا الآن!
إنها مناسبة أخرى لنرى هل ستكون الدول الغربية عند ادّعاءاتها بالدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان، فتساعد الشعب الإيراني بكل الوسائل، أم ستبحث عن مصالحها فقط؟ ويسمحون للملالي بقطع اتصال الإيرانيين بالخارج كي يقتلوهم من دون شهود!
نُشر بالتزامن مع نشره في موقع "الحرة".