أُدينُ حرق أي كتاب، أكان كتاباً من وحي الله أم من وحي البشر، حتى إني أدين حرق الكتاب الذي يدعو الى حرق الكتب. لا يمكن تبرير حرق كتاب بحجة ممارسة حرية الرأي والتعبير، بل يجوز إدانة حرق كتاب بالإستناد الى هذه الحجة، فحرق الكتاب هو حرق لرأي ولأبرز وسيلة للتعبير. الحرية هنا تحرق نفسها بحجة التعبير عن نفسها.
تكتسب المسألة بعداً أخطر عندما تعتبر جماعة بشرية كبيرة الكتاب الذي جرى حرقه، مقدسا، من مثل جماعة المسلمين في العالم.
فقد أثار حرق نسخة من القرآن الكريم أمام مسجد في السويد، ردوداً شاجبة، دينية وسياسية كثيرة، في البلدان الاسلامية. ليست المرة الاولى يحصل فيها ما يشبه ذلك في بلاد الغرب، كما أن حجم الردود الاسلامية ليس جديداً أيضا. لكن لهذا الحدث خصوصية أود التوقف عندها. كما سأتوقف عند مضمون الردود، واتساءل حول نزعة الكراهية التي تحملها، ردا على ما تعتبره نزعة كراهية عبّر عنها الذين حرقوا نسخة القرآن.
يقول الخبر: "أحرق رجل صفحات نسخة من المصحف أمام مسجد ستوكهولم الكبير الأربعاء، بعدما منحت السويد إذناً لتنظيم تظاهرة تزامنت مع بدء عيد الأضحى، إذ اعتبرت الشرطة أنّ طبيعة الأخطار الأمنية المرتبطة بإحراق المصحف "لا تبرّر بموجب القوانين الحالية رفض الطلب. فرّ سلوان موميكا (37 عاماً) من العراق إلى السويد قبل سنوات، وكتب للشرطة في الطلب الذي تلقّت وكالة "فرانس برس" نسخة منه: "أريد التعبير عن رأيي حيال القرآن". وقُبيل التظاهرة قال موميكا لوكالة الأنباء السويدية "تي تي" إنّه يريد أيضاً تسليط الضوء على أهمّية حرية التعبير، مضيفاً: "هذه ديموقراطية، وستكون في خطر إذا ما قالوا لنا إنّ ليس بإمكاننا القيام بذلك".
وسط حراسة مشددة من الشرطة، خاطب موميكا حشداً ضمّ عشرات الأشخاص عبر مذياع. وفي بعض الأحيان، داس المصحف وأضرم النار في بضع صفحات قبل أن يغلقه بقوة ويركله مثل كرة قدم، ملوّحاً بأعلام سويدية. لكن بعد الواقعة اتهمت الشرطة السويدية الرجل بالتحريض ضد جماعة عرقية أو قومية.
الخصوصية في الحدث أن بطله عراقي فرّ من بلاده، أراد أن يعبّر عن رأيه بالقرآن كما صرّح. انها نقمة على الداخل الاسلامي، معبّر عنها في الخارج، وتحديدا في الغرب. حرية انتقاد الدين الاسلامي ممنوعة في العراق، كما في سائر البلدان العربية، وتعرّض صاحبها لعقوبة الموت، في المحكمة او في الشارع. في حين انه في السويد يمكنك أن تنتقد الدين المسيحي وان تحرق ما شئت من نسخ الإنجيل. بهذا المعنى، الترخيص للتظاهرة ليس بالضرورة تعبيراً عن موافقة الحكومة السويدية على العمل المدان، ولا عن رغبتها في نشر الكراهية ضد الدين الإسلامي والمسلمين. هذا لا يلغي احتمال وجود موقف سلبي من الإسلام والمسلمين في اوساط الحكومة السويدية او في اوساط المواطنين السويديين. مع الإشارة الى أن عدد المشاركين في التظاهرة لم يتعدَّ عشرات الأشخاص، كما جاء في الخبر، وهذا ما ليس من شأنه أن يجعلها ظاهرة شعبية، ولا ظاهرة سويدية او غربية بالتحديد.
ردود فعل مسلمين وحكومات اسلامية جاءت مستنكرة وشاجبة، كما هو متوقع نسبة لأحداث سابقة مشابهة. التهمة الأساسية الموجّهة ضد الفعل المدان، وطالت الحكومة السويدية والغرب بشكل عام، نشر الكراهية ضد الاسلام والمسلمين وتأجيج الحقد والتحريض على العنف. هذا ما يمكن استنتاجه من معظم الردود التي تناقلتها الصحف.
ودعت منظمة التعاون الاسلامي الى تطبيق القانون الدولي الذي يحظّر بوضوح اي دعوة الى الكراهية الدينية، واتخاذ تدابير جماعية للحيلولة دون تكرار حوادث تدنيس المصحف.
ما يهمني ان اتوقف عنده هو ردود الفعل الاسلامية اللبنانية، وأكثرها تفصيلاً ووضوحاً وخطورة، هو البيان الصادر عن المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى.
فقد استنكر المجلس "سماح الشرطة السويدية بإحراق القرآن الكريم في عدوان موصوف على الامة الاسلامية وانتهاك فاضح لحرية الدين والمعتقد يحمل إساءة لكل المؤمنين في العالم وخاصة المسلمين منهم"، وطالب العالم العربي والإسلامي بـ"وقفة جادة أمام الحرب الدينية والهجمة الثقافية المنحطة الهادفة الى نشر ثقافة الانحلال والانحطاط الاخلاقي لتوهين القيم الانسانية والدينية والقضاء عليها، التي يقف خلفها ويثيرها الغرب الملحد والمجدف والصهيونية العالمية للقضاء على القيم الانسانية الحضارية"، "مما يحتم على الدول العربية والاسلامية والمنظمات والجمعيات التي تعنى بالحفاظ على القيم الاخلاقية والانسانية والقانونية، وخصوصا في العالم العربي والإسلامي، مواجهة هذا الخطر الذي يهدد الانسانية، وعدم الاكتفاء بتصدير بيانات الشجب والاستنكار". وطالب المجلس سائر المرجعيات الروحية بما فيها الفاتيكان والكنيسة الشرقية بأن "يكون لها موقف من هذا العدوان الذي لن يقتصر على الإسلام ورموزه في سلسلة من الاعتداءات الممنهجة ليطال الجميع، وخصوصا المقدسات المسيحية والدينية بشكل عام". وحمّل المجلس "الحكومات الغربية، بما فيها حكومة السويد، التي رعت هذا الانتهاك الفاضح والبشع مما قد يجر ردود أفعال لا تحمد عقباها تسهم بالدفع نحو حروب دينية تسعى لها الصهيونية العالمية يدفع اثمانها العالمان الإسلامي والمسيحي".
خطورة ما جاء في البيان، تكمن أولا في ان المجلس له وجه ديني وسياسي، وهو يمثل الشريحة الكبرى في الطائفة الشيعية، التي تحظى حاليا بالنفوذ الأكبر على المستوى السياسي اللبناني. وتكمن ثانياً في المواقف والآراء التي وردت في البيان، واهمها:
- تضخيم طبيعة الفعل المدان ووصفه بـ"العدوان، والحرب، والهجمة".
- تضخيم أبعاد الفعل المدان واعتباره اعتداء على "الامة الاسلامية" و"حربا دينية" و"هجمة ثقافية" عليها.
- إعتبار ان الهدف من وراء الفعل المدان هو "نشر ثقافة الانحلال والانحطاط الأخلاقي لتوهين القيم الانسانية والدينية والقضاء عليها"، وفي هذا الموقف شيطنة للثقافة الغربية، وإدعاء احتكار القيم الانسانية والدينية، والخلط بينهما، في وجه ثقافة تفصل بين الإثنتين، وتحفظ لكل واحدة استقلاليتها وحريتها وإطارها.
- اما من يقف خلف نشر هذه الثقافة "المنحطة" ويثيرها فهو "الغرب الملحد والمجدّف والصهيونية العالمية للقضاء على القيم الانسانية الحضارية". وهنا يجري الخلط بين الغرب والصهيونية العالمية، وتعميم تهمة الإلحاد على شعوب الغرب. مع ذلك يطالب البيان الفاتيكان بـ"أن يكون له موقف من هذا العدوان"، الذي سيطال الدين المسيحي أيضا. وكأن الدين المسيحي ليس جزءا من هذه الثقافة الغربية "الملعونة"، التي انتفضت عليه قبل ان تعود وتتصالح معه.
- لهذه الاسباب كلها يدعو البيان الى عدم الإكتفاء بإصدار بيانات الشجب والإستنكار، لكنه لا يحدد أشكال المواجهة التي يدعو اليها. ولا يُستبعد هنا ان تكون أشكالا عنفية طالما ان الفعل المدان، هو "عدوان وحرب وهجمة"، وطالما ان الطرف المتهم هو الصهيونية العالمية...
هل أبالغ إذا كنت قد رصدت في هذا البيان شحنة قوية من الكراهية والتحريض عليها، تجاه الغرب وشعوبه؟ هل عليّ أن أذكّر بأن قسماً كبيراً من اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، يتبنون الثقافة الغربية ويمارسونها في منازلهم ومدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم وفنونهم وحياتهم اليومية؟
بينما كانت النيران تلتهم تراث ابن رشد ورسائله وكتبه، لاحظ ابن رشد أن أحد تلامذته كان يبكي بحرقة على الفكر الذي تلتهمه النيران، فهدأه قائلاً: "إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها".
كان ابن رشد يتكلم عن كتبه التي لم يكن يوجد لكل واحد منها على ما يبدو، سوى نسخة واحدة في حينه، مع ذلك اعتبر ان لا خوف على أفكارها. فهل نخاف على آيات القرآن الكريم المنتشرة على صفحات الملايين من النسخ والتي حفظتها قلوب المسلمين؟ وهل نؤجج الكراهية ضد الغرب في مجمله لأن واحدا من بلادنا نحن، شاء أن ينتقم من بيئته التي فرّ منها، ويعبّر عن كراهيته لها، فمزّق ما اعتقد انه يمزّق قلبها؟