جواد الساعدي
في أواسطِ الثلاثيناتِ من القَرْنِ الماضي، واجهتِ الحكومةُ العراقيّةُ برئاسةِ ياسينِ الهاشميِّ آنذاكَ، مشكلةً وقعتْ داخلَ العائلةِ المالِكة، ففي إِحدى رِحْلاتِها إلى أَثينا معَ أُختِها، الأميرةِ راجحة، غابتِ الأميرةُ عَزّة، أُختُ الملكِ غازي، عنِ الفُندقِ الذي كانتْ تقيمُ فيهِ، ثُمَّ تبيّنَ أَنّها سافرتْ معَ عشيقِها إلى جزيرةِ رودوس اليونانيّة.
عشيقُها كانَ أَناستيس خِرالمبيس، يونانيٌّ يعملُ حمّالًا ومساعدًا في بارِ أحدِ فنادقِ الجزيرةِ التي كانتِ الأميرةُ قد زارتْها منْ قبلُ وأقامتْ في الفُندقِ الذي يعملُ فيهِ، فأحبّتْهُ ونشأتْ بينَهُما عَلاقةٌ غَراميّة. كانَ خِرالمبيس كمُعظَمِ أَهلِ اليونانِ مسيحيًّا أرثوذكسيًّا؛ ولكي يتمكَّنا، هوَ والأميرةُ عَزّة، منَ الزَّواجِ، تخلّتِ الأميرةُ عنْ مُعتقَدِها الإسلاميِّ واعتنقتِ المسيحيّةَ الأرثوذكسيّة.
كانتْ وزارةُ ياسينِ الهاشميِّ "أوّلَ وزارةٍ تُعنى بالنّاحيةِ الأخلاقيّةِ في البلاد(...) فأسَّستْ لهذهِ الغايةِ "الشُّرطةَ الأخلاقيّةَ" التي كانتْ مُهمّتُها مُراقبةَ دُورِ السّينما والبَغاءِ، ومنْعَ الموبِقاتِ بينَ النّاسِ، كما أسّستْ لِجانًا لمراقبةِ الأفلامِ السينمائيّةِ(...) للتّأكدِ منْ سلامتِها مِمّا يُشينُ السُّمعةَ، ومنَعت الرّقصَ الخِلاعيَّ في الفَنادقِ وسدَّتِ الأبوابَ في وجوهِ الرّاقصاتِ الأجنبيّاتِ وأمَرَتْ بتسفيرِ مَنْ كانتْ منهُنَّ في بغداد".
حينما وصلَ نبأُ الأميرةِ إلى بغدادَ غضِبَتِ الحكومةُ ورأى رئيسُها بأنَّ الأميرةَ "بزواجِها منْ غيرِ دينِها، ومِنْ شخصٍ مِنْ مستوىً اجتماعيٍّ مُتدَنٍّ، جلَبتِ العارَ لِدينِها ولبلدِها وللعائلةِ الهاشميّةِ الحاكمة". وبينَما رأى وزيرُ الخارجيّةِ نوري السّعيدُ خلْعَ الملكِ غازي، طالبَ وزيرُ الدّفاع ِجعفرُ العسكريُّ بِقتلِ الأميرةِ "خلاصًا من عارِها"، وذلكَ وَفقًا للأعرافِ العشائريّةِ المعروفةِ بـ"غسلِ العار"، لكنَّ السفيرَ البريطانيَّ تدخّلَ مُعارضًا عمليةَ القتلِ لأنَّها "تُؤثّرُ على سُمعةِ العراقِ الدّوليّةِ، وتُثيرُ الاستياءَ لدى الدُّولِ الأوروبيّةِ". عندئذٍ قرّرتِ الحكومةُ الاكتفاءَ بنزعِ الّلقبِ عنِ الأميرةِ و"فصلِها" منَ العائلةِ المالكةِ، علْمًا أَنَّ الأميرةَ كانتْ قدْ أَبلغَتْ أُختَها عندما لحِقَتْ بِها إلى الجزيرةِ في محاولةٍ لإقناعِها بالعَوْدة، تخلّيها عنِ العائلةِ الهاشميّةِ.
لكنَّ الحادثةَ لمْ تنتهِ عندَ هذا الحدِّ، وأَخذتْ أبعادًا سياسيّةً داخليّةً خطيرةً بعدَ أنْ باعدتْ بينَ الملكِ غازي من جهةٍ، والهاشميِّ والسّعيدِ والعسكريِّ ووزيرِ الدّاخليّةِ رشيدِ عالي الكَيْلانيّ من جهةٍ أُخرى، وراحتْ تعكسُ آثارَها على العَلاقةِ بينَ الطرفينِ وسبّبتْ زيادةً في حِدَّة الاستقطابِ السّياسيِّ.
بدأَ الهاشميُّ بالتّضييقِ على المَلكِ وحاشيتِهِ وخدَمِهِ، وأصدَرَتْ حكومتُهُ مَرسومًا لضبطِ تصرُّفاتِ أفرادِ العائلةِ المالكةِ وتقييدِ تحركاتِهِم، ما أدّى إلى استياءِ المَلِكِ ودفَعَهُ إلى التّفكيرِ في إزاحةِ الهاشميِّ وحلفائِهِ، لكنَّهُ لم يتمكّنَ منْ ذلكَ إلّا بعدَ نحو ستّةِ أشهرٍ، وإلّا بانقلابٍ عسكريٍّ قادهُ الفريقُ بكْرُ صِدْقي في 29.10.1936، حيْثُ أُجبِرتِ الحكومةُ على الاستقالة.
وبَينَما قُتلَ جعفرُ العسكريُّ على يدِ أربعةٍ من ضُبّاطِ بكْرِ صِدْقي وبأوامرَ منهُ، أُضطُرَّ كلٌّ من الهاشميِّ والسّعيدِ والكَيْلانِيِّ والكثيرُ من أقاربِهِمْ والمقرَّبينَ منهُمْ إلى مغادَرةِ العراق؛ وذلكَ بعْدَ أنْ زارَ المُرافقُ الأوّلُ للملكِ غازي الثلاثةَ وأبلغَهُمْ رغبةَ الملكِ "بمغادرتِهِم حالًا، رعايةً للمصلحةِ العامّةِ وخِشيةَ أَنْ يُصيبَهُمْ مكروهٌ على أيدي الضُّباطِ المُتحمِّسينَ". حَرِيٌ بالذِّكرِ أنَّ "اعتداءً فظيعًا وقعَ على دورِ بعضِ الوزراءِ مِنَ الوزارةِ المستقيلةِ، تأباهُ المُروءةُ والشّهامة".
غادرَ السّعيدُ إلى القاهرةِ بطائرةٍ حربيّةٍ بريطانيّةٍ بعدَ أنْ لجأَ إلى "المُفوضيّةِ المِصريّةِ" في بغدادَ، وتوجّهَ كلٌّ منْ الهاشميِّ والكَيْلانيِّ إلى سوريا بصُحبَةِ سيّاراتٍ مسلّحةٍ للشُّرطةِ رافقتْهُم حتّى الحُدودِ، ومنْ هناكَ واصلا رِحلتَهُما إلى بيروتَ حيثُ استقرَّ فيها الهاشميُّ حتّى وفاتِهِ في 21.01.1937، لكنّهُ دُفنَ في مَرقدِ صلاحِ الدّينِ الأيّوبيِّ في دمشْقَ بعدَ محاولاتٍ فاشلةٍ لدفنِهِ في العراقِ بشَكلٍ يَليقُ بمكانتِهِ وتاريخِهِ، أمّا الكَيْلانيُّ فظلَّ يتنقّلُ بينَ لُبنانَ وسوريا وتُركيا حتّى عودتِهِ إلى بغدادَ، وذلكَ بعدَ اغتيالِ الفريقِ بَكرِ صِدقي والمقدَّمِ محمد علي جواد، آمرِ القوّةِ الجوّيّةِ العراقيّةِ، في 11.08.1937 على يدِ فريقٍ آخرَ منَ الجَيش.
كانَ انقلابُ بكْرِ صِدقي أوّلَ انقلابٍ عسكريٍّ في المنطقةِ العربيةِ وفاتحةً لسلسلةٍ منَ الانقلاباتِ العسكريّةِ فيها، وسابقةً خطيرةً لتدخُّلِ الجَيشِ في السّياسةِ، كما إنّهُ دشّنَ أُسلوبَ الإعدامِ الميدانيِّ والاغتيالاتِ وأَبرَزَ الانقساماتِ داخلَ الجَيشِ وعمّقَ الصِّراعَ بينَهُ وبينَ القوى السياسيّةِ المدنيّةِ حتّى أصبحَ الشّكُّ والقلقُ على الأرواحِ سيّدَ الموقفِ، سواءٌ بينَ الطَّرفينِ أمْ بينَ قادةِ الجَيشِ أنفسِهِم.
وأدّى اغتيالُ صِدقي إلى تمرُّدِ المَوْصِلِ على الحكومةِ المركزيّةِ ورفْضِها تسليمَ ضُبّاطٍ اُتّهِموا دونَ دليلٍ بأنَّهُم كانوا وراءَ العمليّةِ، فكادتِ الحكومةُ أنْ تُحرِّكَ بقيّةَ الجَيشِ لـ"تأديب"ِ المَوْصِلِ، وهو ما كانَ يَعني أنْ يُقاتلَ الجَيشُ بعضَهُ بعْضًا، لَوْ لمْ يتمرّدْ مُعَسكرُ الوشّاشِ في بغدادَ بقيادةِ العقيدِ سعيدِ التَّكريتيّ، ويرفُضْ بلوغَ نقطةِ التّصادمِ معَ الجَيشِ في المَوْصِل.
وعلى الرغمِ منْ أَنَّ بَكْر صِدقي لم يستلمْ مَنصبًا وزاريًّا وبقيَ رئيسًا لأركانِ الجَيش، فإنّهُ كانَ يحضَرُ اجتماعاتِ مجلسِ الوزراءِ ويُملي عليهِ الأوامرَ وانتقلتْ شؤونُ العراقِ في أيّامهِ منَ السُّلطاتِ المختصَّةِ إلى يدِ رجالِ الجَيشِ الذي صارَ الأداةَ المفضّلةَ عندَ الجَميعِ لبُلوغِ سُدّةِ الحُكْم.
عندما استخدمَ نوري السّعيدُ الجيشَ لإسقاطِ وزارةِ جميلِ المدفعيِّ في 24.12.1938، قالَ السّعيدُ للمدفعيِّ بأنَّ "الجَيشَ نزَعَ الثّقةَ عنْ وزارةِ الهاشميِّ في 29.10.1936 -ويقصدُ بذلكَ انقلابَ صِدقي- ونَزَعَ هذهِ الثّقةَ عنِ الوزارةِ التي تلتْها، وهوَ يَنزَعُها الآنَ عنْ هذهِ الحكومةِ، وما عليها إلّا أنْ تترُكَ الحُكْمَ وأن لا تكونَ سببًا في إراقةِ الدّماءِ"، فأَذعَنَ المدفعيُّ وقدَّمَ استقالتَهُ.
في 30.01.1941، وبعدَ تدخُّلاتٍ وضُغوطٍ بريطانيّةٍ لإخراجِ العراقِ منْ حِيادِهِ في الحربِ العالميّةِ الثّانيةِ، صدَّها رئيسُ الوزراءِ رشيدُ عالي الكَيْلانيُّ وفريقُهُ؛ وخلافٍ حولَ حلِّ البرلمانِ وقعَ بيْنَ الأميرِ عبد الإلهِ، الوصيِّ على العَرْشِ، وبيْنَ الكَيْلانِيّ مدعومًا بقادَةٍ عسكريِّينَ في بغدادَ، غادرَ الوصيُّ العاصِمةَ واحتمى بقائدِ الفُرقةِ الرّابعةِ في الدِّيوانيّةِ، تملُّصًا مِنْ ضغوطِ القادةِ ومنَ التّوقيعِ على حلِّ البرلمانِ، فقدَّم الكَيْلانِيُّ استقالتَهُ في اليَومِ التّالي بعدَ أنْ صرّحَ بأنّهُ "مِنَ المُستحيلِ عليْهِ أنْ يَستخدِمَ الجَيشَ في القَضاءِ على الدُّستور".
كانَ الكَيْلانيُّ بعدّ عودتِهِ إِثرَ اغتيالِ بكْرِ صِدقي قدْ عُيِّنَ رئيسًا للدّيوانِ الملَكيِّ، وذلك قبلَ بِضعةِ أشْهرٍ منْ مَقتلِ الملكِ غازي في 04.04.1939، وفي 31.03.1940 شكّلَ حكومتَهُ الثّالثة.
اقترحَ العميدُ طه الهاشِميُّ الذي كُلِّفَ تشكيلِ الحُكومةِ الجَديدةِ أَنْ يجتمعَ الوصيُّ بالقادةِ المعنيّينَ "ليعرِضوا الولاءَ والطّاعةَ"، فاستحسنَ الوصيُّ ذلكَ، لكنَّ السّفيرَ البريطانيَّ "نصَحهُ" بِعدَمِ مُقابلتِهِمْ. ولمْ يمُرَّ أسبوعٌ حتّى طلَبَ وزيرُ الخارجيّةِ البريطانيُّ مِنْ وزيرِ الخارجيّةِ العراقيِّ إقصاءَ القادةِ ومَنْ يلوذُ بِهِمْ مِنَ الجَيشِ، وقطْعِ العَلاقاتِ معَ إيطاليا التي دخَلَتْ مُؤخّرًا الحَرْبَ إلى جانبِ ألمانيا؛ وهوَ ما كانتْ ترفُضُهُ وزارةُ الكَيْلانِيِّ باستثناءِ وزيرَيْنِ أَحَدِهِما نوري السّعيدِ الذي كانَ في بدايةِ الحَربِ قد قَطَعَ العَلاقاتِ معَ ألمانيا وألقى القبْضَ على رعاياها وسلَّمَهُمْ إلى البريطانيّيْنَ، فَجَرى نقْلُهُمْ أسرى إلى الهِنْدِ.
ولمّا حاولتْ الحُكومَةُ تنفيذَ الإملاءاتِ البريطانيّةِ انتفَضَ القادةُ العسكريّونَ في 01.04.1941، فهَرَبَ الوصيُّ منْ بغدادَ بمُساعدةٍ أميركيّةٍ وبريطانيّةٍ، واحتمى بالبريطانيّينَ في البَصرةِ وحاولَ وإيّاهُمُ استمالةَ قادةِ الجَيشِ في الجَنوبِ والفُراتِ الأوسَطِ للزّحفِ على بغدادَ والقضاءِ على "الانقلابيّينَ"، لكنَّهمْ لم يُفلِحوا لأنَّ القادةَ رفَضُوا "شقَّ الجَيشِ".
في البَدْءِ طلَبَ "الانقلابيّونَ" مِنَ الهاشِميِّ "إيجادَ مَخرَجٍ عاجِلٍ لحلِّ الأزمَةِ بالتّعاونِ معَ الكَيْلانِيِّ الذي يَثِقُ الجَيشُ بِهِ كلَّ الوثوقِ"، لكنَّ الهاشميَّ رفَضَ التّعاونَ معَ الكَيْلانيِّ "لِعدَمِ اتّفاقِ وجهاتِ النَّظرِ في تسيِيرِ شؤونِ الدّولةِ"، فأَجبروهُ على توقيعِ استقالتِهِ. وفي صَباحِ اليومِ التّالي توجّهَ الكَيْلانِيُّ واثنانِ مِنْ قادةِ الانقلابِ إلى بيْتِ الهاشِميِّ وجَرى الاتفاقُ على إِبقاءِ الوزارةِ شرْطَ أنْ تجتمعَ بالسّياسيِّيْنَ لمعالجةِ الموقفِ، وعلى امتناعِ الجَيشِ عنِ التّدخُّلِ في السّياسةِ، والسَّعيِ لإقناع الوصيِّ بالموافقةِ وبعودتِهِ إلى العاصمةِ إذا غادَرَها.
لكنْ عندما عَلِمَ فريقُ الكَيْلانِيِّ بتفاصيلِ هروبِ الوصيِّ وتدخُّلِ الأميركيِّينَ والبريطانيِّينَ شعَرَ بأّنَّ "الخطرَ الأجنبيَّ باتَ يُهدّدُ مصلحةَ الوطنِ ويُنذرُ بتَحطُّمِ الجَيْشِ"، فتشكّلتْ "حكومةُ دفاعٍ وطنيٍّ" برئاسةِ الكَيْلانِيِّ.
كانَ فريقُ الكَيْلانِيِّ يواجِهُ تحالُفًا تدعمُهُ بريطانيا بينَ الوصيِّ ونوري السّعيدِ وآخرينَ. بِسُرعةٍ تحوّلَ هذا التحالفُ بوجهِ "حكومةِ الدّفاعِ الوطنيِّ" إلى حربٍ بريطانيّةٍ على العراقِ بدأَتْ في 02.05.1941 وانتهتْ في 29 منهُ بالسّيطرةِ على بغدادَ، فاضطُرَّ الكَيْلانيُّ وفريقُهُ إلى مغادرةِ العراقِ وعادَ إليهِ الوصيُّ وفريقُهُ بعدَ أنْ كانَ قدِ انتقلَ منَ البصرةِ إلى عمّانَ.
اِنتقلتْ "عدوى" استخدامِ الجَيشِ إلى سوريا المجاورةِ فبدأَتْ تتوالى فيها الانقلاباتُ بَدءًا من العامِ 1949؛ ولعلَّ لهذهِ "العدوى"، نصيبًا في ما جَرى لاحقًا في مِصرَ واليمنِ والسّودانِ وليبيا، فضلًا عن العراق.
عَنْ عَلاقةِ الملكِ غازي بانقلابِ بَكْر صِدقي قالتْ جريدةُ "الدَّيْلي تلغراف" في تعليقٍ لها بعدَ مقتلِ صِدقي: "إنَّ السُّلطةَ لَمّا أُفلِتتْ فَجأةً منْ يدِ الملكِ غازي ذهبتْ فورًا إلى الجَيشِ، ولم يكُنْ ذلكَ دونَ موافقةِ الشّابِّ قليلِ الخبرةِ، شديدِ الوطنيّةِ"، وأضافتْ: "لعلَّ غازي بعدَ أشهُرٍ منَ العجزِ السياسيِّ، حاولَ إثباتَ وجودِهِ واقتدارِهِ".
مِن نافلةِ القولِ إنَّ حادثةَ عَزّة لم تكُنِ السببَ الوحيدَ لما جرى، ولكنّها كانتْ "علامةً" فارقةً في طريقِ "ديبلوماسيةِ" الشَّرفِ والعارِ التي قادتْ إلى الانقلابات.