النهار

"الهروب الأميركي" من أفغانستان... متلازمة الحروب الفاشلة!
"الهروب الأميركي" من أفغانستان... متلازمة الحروب الفاشلة!
A+   A-
محمد حسين أبو الحسن
 
"تمرمغ" شرف الإمبراطورية الأميركية في التراب الأفغاني... سيناريو فيتنام يتكرر. قبل عشرين عاماً كانت كهوف أفغانستان وجبالها مسرحاً لصواعق النار، دماراً ودماءً، رداً على تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن. اليوم يهرول الرئيس الأميركي جو بايدن لسحب قوات بلاده، منهياً "أطول حرب خاضتها واشنطن"، انما ليس بوسعه إعلان الانتصار؛ فالمهمة لم تكتمل كما ادعى الرئيس الأسبق جورج بوش الابن ذات يوم... نذر الهزيمة المدوية تلقن البيت الأبيض درساً موجعاً، حول خطورة الإنفراد بإدارة العالم مهما يكن حجم آلتك العسكرية؛ تجرجر أميركا أذيال الخيبة، بينما يخشى العالم "طرطشة الدم" من المستنقع الأفغاني. الموعظة الحسنة في ما جرى أن العداء لأميركا خطأ لا تحتمل مخاطره، والوقوع في غرام أميركا خطأ أكبر لا تحتمل خسائره!

كتاب الألغاز
اللافت أن التضاريس العرقية والثقافية الوعرة لوسط آسيا زادتها أصابع اللاعبين الكبار ذوي المصلحة قسوة وملأتها عبر التاريخ بالدماء. هنا ينبغي ملاحظة أن القوة العسكرية بقدر ما هي ضرورية كأحد عناصر إدارة الأزمة من أجل تسويتها، فهي ليست كافية بالضرورة إذا اصطدمت بشرعية تحتضن السلوك المطلوب تغييره، فالحساب في نزاعات الهوية يتخطى اعتبارات الخسائر المادية والبشرية، ليشمل الاعتبارات المعنوية؛ وهذا ما جرى في الحرب الأميركية على أفغانستان.

في كتاب الألغاز الأميركي الذي بدأ تحريره مع تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، تمت تنحية السؤال الأهم: من فعلها؟ وكيف؟ ولماذا؟. صحيح أن من حق الشعب الأميركي أن يغضب ويدرأ عن نفسه غوائل الإرهاب، لكن القوة العظمى الأولى عالمياً عجزت، حتى الآن، عن تقديم إجابات شافية حول أبعاد الجريمة... كان الحادث دموياً مروعاً، استثمره "المحافظون الجدد" لإعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، بدءاً من أفغانستان، وليس انتهاءً بغزو العراق، وما زالت "الفوضى الخلاقة" تضرب بعنف جنبات المنطقة وما حولها، إذ يكفي النظر إلى ما حدث في العقدين الماضيين، تحت شعار "الحرب على الإرهاب"... ترك الغزو الأميركي لأفغانستان، مثلاً، خسائر باهظة على الجميع، قتل 23 ألف جندي أميركي وأصيب 20 ألفاً، إضافة إلى القتلى والجرحى من جنسيات أخرى منضوية تحت علم حلف الناتو، هذا بخلاف تريليون دولار تحملها دافعو الضرائب الأميركيون ثمناً لهذه الحرب العبثية، وقُتل أيضاً 180 ألف أفغاني.

أما أكبر الخسائر - وعلى عكس ما يظن كثيرون - فهي أن التدخل العسكري الغربي منح "حركة طالبان" "قبلة الحياة"، بعدما كادت تلفظ أنفاسها. كان الخطاب الديني "الطالباني" يعبّر عن وضعية محاصرة، بعد أن فشلت في إدارة البلاد، وجاءت الغارات الأميركية لتزيد من تماسك صفوف الحركة، وترفع منسوب تعاطف الشعب معها، وبعد مرور 20 عاماً ما زالت أفغانستان بعيدة من السلام والاستقرار. ويرى الدكتور ساجان غوهيل من مؤسسة آسيا والمحيط الهادئ أنها يمكن أن تعود ثانية أرضاً خصبة للتطرف، كما كانت في تسعينات القرن الماضي.

إخفاقات "الإسلام السياسي"
وظفت "حركة طالبان" بالتحالف مع جماعات متطرفة، كـ"القاعدة" و"داعش"، التدخلات العسكرية الغربية ذريعة لأهداف سياسية برداء ديني؛ لمقاومة ضغوط خارجية وداخلية. يرتبط هذا من جهة أخرى بما يسمى "ظاهرة الإسلام السياسي"، بكل ما فيها من التباسات واحتكاكات مع غيرها من الظواهر، وإجمالاً يرتبط هذا بإشكالية أخرى باتت من أكثر ما يميز الحياة المعاصرة في العالم الإسلامي هي الطموح القديم المتجدد لإقامة حياة سياسية تجمع بين حكم الدين - بمعنى أصح رجال الدين - وبين أساليب الحياة العصرية القائمة على الحرية والديموقراطية وتداول السلطة، وقد أدى الإخفاق المتواصل في تحقيق هذه المعادلة، حتى الآن، إلى إصابة نظم الحكم التي حاولت تطبيقها في العالم الإسلامي بالوهن والضعف والصراعات الحادة.

وتتكرر تنويعات الصراع بأشكال مختلفة، في أفغانستان التي جعلها موقعها في قلب آسيا الوسطى ملتقى مصالح وصدامات، تمتد على مساحة 647 ألف كلم مربع، وهي أحد أكثر البلدان فقراً ووعورة، شعب جبلي عنيد، 30 مليون نسمة، يتوزعون على سبع جماعات عرقية، و30 لغة محلية. يضع هذا أفغانستان "جملة استراتيجية" مفيدة، في الحسابات الإقليمية والدولية... يبدو ذلك قدراً لا فكاك منه، في ظل الصراع بين الغرب والصين وروسيا والهند وباكستان. بين عامي 1979- 1989، انزلق الاتحاد السوفياتي (القوة العظمى الثانية آنذاك) إلى التدخل عسكرياً في أفغانستان، بدفع أميركي وتخطيط من زبيغنيو بريجينسكي الذي كان مستشار الأمن القومي في إدارة جيمي كارتر؛ ما أدى لإنهاك الاتحاد السوفياتي عسكرياً واقتصادياً، فبالتعاون مع "الجماعات الإسلاموية الجهادية المتطرفة"؛ وظفت المخابرات الأميركية "الإسلام السياسي" برعونة في صدام المصالح والاستراتيجيات؛ وأفضى ذلك إلى تفكيك الاتحاد السوفياتي، وانفراد الولايات المتحدة بمقعد قيادة النظام الدولي.

لم يدم الأمر طويلاً، انقلب السحر على الساحر، وذاقت أميركا طعم طبخة مخابراتها، لكن شعوب الشرق الأوسط هي من تجرعت السم الناقع، ودفعت فاتورة الصدام بين أميركا والثعابين التي فرّختها مختبراتها... ذهب الملايين ضحايا، في العراق وليبيا وسوريا واليمن والصومال وغيرها، وما زالوا. وبعد أن غاصت أقدام واشنطن عميقاً في الوحل الأفغاني، قررت الخروج بالكامل، قبل 11 أيلول (سبتمبر) 2021، بلا شروط مسبقة. وقعت الولايات المتحدة و"طالبان" في قطر أول اتفاق سلام بينهما في 29 شباط (فبراير) 2020، وينص على انسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان في أيار (مايو) 2021، وقد أعلن الرئيس بايدن بدء سحب قوات بلاده فعلياً.

خيانة بايدن!
ينسحب الجيش الأميركي من دون نصر؛ صورة أميركا تتغير، تبدو دولة عظمى لكن منهكة، نتيجة هزائم وحروب خارجية لا طائل من ورائها. نفى بايدن استسلام إدارته لـ"طالبان"، بل أكد أنه يكثف بذلك الضغوط على "طالبان" والحكومة الأفغانية، للتوصل إلى اتفاق سلام. غير أن الكاتب البريطاني كون كوفلن وصف - في تقرير نشره معهد جيتستون الأميركي - انسحاب قوات أميركا والناتو، الآن، بأنه "خيانة من بايدن لأفغانستان واستسلام للإرهاب"، وأن النتيجة المنطقية لذلك هي سيطرة "طالبان" وحلفائها مثل "القاعدة" و"داعش" على البلاد مرة أخرى.

في الحقيقة كانت نصوص الاتفاق تقضي بأن انسحاب القوات الأميركية مرهون بتخلي "طالبان" عن العنف، وإنهاء مساندتها الجماعات الإرهابية. على أرض الواقع لم تنفذ "طالبان" أياً من ذلك؛ بل شنت حملة عنف في مختلف أنحاء البلاد، واستولت على مساحات واسعة، وظهر عجز القوات الموالية للرئيس الأفغاني المنتخب ديموقراطياً أشرف غني، عن الدفاع عن نفسها، في مؤشر على إمكان انهيارها تماماً، بينما استنتج تقرير أعدته وزارة الخزانة الأميركية، أن "طالبان" حافظت على علاقاتها مع "القاعدة" ومنظمات إرهابية.

ويوضح كوفلن أن قادة "طالبان" يجادلون حول التجربة الأفغانية مع الغزاة الأجانب، تقول إن واشنطن ستفقد في النهاية الاهتمام بالصراع وتنسحب، مستشهدين بمأثور أفغاني: "قد يكون لديك كل الساعات، لكن لدينا كل الوقت". لذلك حذرت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون الرئيس بايدن من الانسحاب المتسرع من أفغانستان؛ لأنه يفتح الأبواب لانتزاع "طالبان" السلطة أو الحرب الأهلية.

المعطيات كلها ترجح عودة "طالبان" إلى السلطة، وقد تستعيد التحالفات القديمة زخمها العنيف، يقوى "القاعدة" مجدداً، ويرث "داعش" في التعبير عن ظاهرة العنف الديني، بعد أن تقوض في سوريا والعراق؛ إنها ظاهرة واحدة تتجلى تنظيمياً "هياكل عنقودية" يرث بعضها الآخر. وفي ظل انعدام التغيير الأساسي في هيكل الدولة الأفغانية، تسبق مسببات الفوضى احتمالات السلام المؤجلة؛ في انتظار جولات مقبلة بين "طالبان" وبقية أمراء الحرب الأفغان ومن يمسك بخيوطهم من الخارج. الخطورة أن ما يحدث هناك يتردد صداه في الشرق الأوسط على نحو مجلجل.

إن الخروج غير المشرف للقوات الأميركية يدهس سمعة الدولة الأعظم، ويعبر عن فقدان البوصلة السياسية وانسحاب تدريجي من قضايا عالمية، بدأ منذ زمن، للتركيز في ما تراه واشنطن تهديداً أشد، كالصين وروسيا، غير أن هذا الهروب من دون بلورة خريطة للسياسات، يكرس صورة "الجيش المهزوم" منذ فيتنام إلى اليوم؛ لذلك يصعب أن تفلت واشنطن من آثار هزيمتها الاستراتيجية في أفغانستان... تبدو امبراطورية حائرة في طرق مسدودة، وذلك حديث آخر.
الكلمات الدالة
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium