منذ عودتي إلى لبنان، قبل شهر ونيف، وأنا أحاول تأمين الخدمات اللوجستية الضرورية فحسب لجعل العيش ممكناً.
عدا عن مشكلة المياه، يجب تأمين الحد الأدنى من الكهرباء للإضاءة وحفظ الطعام. ويتطلب ذلك الاستعانة بخدمات مولّد كهربائي من الحي السكني، والمولد لا يوفر إلا عدد محدود من ساعات الكهرباء. وأسعى لتأمين بطاريات وUPS لتعويض النقص من خلال تخزين الكهرباء والاستعانة بالأجهزة خلال ساعات التقنين.
وأُهيّئ أجهزة ولمبات تميّز بين مصادر الكهرباء لضبط الاستهلاك.
وإذا تغاضينا عن الكلفة المادية بالدولار النقدي لكل تلك الخدمات، يبقى إهدار الوقت بمواجهة الأعطال التي لا تتوقف.
كل ذلك يستهلك الكثير من الطاقة والأعصاب. قبل الوصل إلى مرحلة تأمين موارد العيش الأخرى.
لم يعد راتبي يكفي لتأمين جزء من كل هذه المصاريف. فإذا كان هذا حال شخص غير مسؤول إلا عن نفسه مع راتب كان كبيراً قبل الأزمة، فكيف تدبّر العائلات حاجاتها؟ ومهما كان حجم المساعدة الخارجية لها، تبقى المصاريف أكبر!؟
انعكس ذلك بوضوح على البناية التي أسكنها، فانقلب وضعها رأساً على عقب.
فرغت البناية من معظم السكان.
منهم من غادر لبنان نهائياً ومنهم من لم يعد باستطاعته تحمل كلفة الإيجار.
واضطر الناطور لإيجاد عمل إضافي فأصبح الوضع كأننا في بناية بحي شعبي.
هذا حال سكان منطقة متوسطة الدخل، ومبنى كانت فيه ظروف الحياة لائقة جداً.
ربما ما أصاب مكان سكني يعتبر صورة مصغرة ومخففة جداً عمّا أصاب لبنان وشعبه.
في هذا الوقت، لا يزال بقايا اللبنانيين يبحثون عن وسيلة تساعدهم على الصمود، في بلد الكرامة و"المقاومة المنتصرة" التي تنتظر صرف نتائج ترسيمها الحدود مع "العدو" الإسرائيلي، لتبني على الشيء مقتضاه!
إسرائيل تُصدّر الغاز ونحن نأمل بالعثور عليه ذات يوم. وبالانتظار، وبما أننا شعب COOL، نتحمس مع السياسيين، ونشهر سيوفنا المذهبية ضدّ بعضنا البعض نصرة للزعيم، فنستكمل جدالاتهم العقيمة والنزاعات حول حق مجلس الوزراء عقد جلسة، من أجل أمور طارئة تتعلق بالحياة والموت وغيرها مما يحتاج إلى إقرار.
نجحوا باستنفار الشارع المسيحي مذهبياً: "يا حيف على المسلمين والشيعة منهم خصوصاً، مع أنهم حلفاءنا، اجتمعوا وصادروا صلاحيات الرئيس الماروني! هل يعقل تسيير أمور الناس بغياب الرئيس المسيحي؟".
ما يغيب عن متقاذفي كرة البينغ بونغ هذه، مسؤوليتهم في التعطيل. ذلك أن السبيل الوحيد لوضع حدّ لحكومة تصريف أعمال هو انتخاب رئيس للجمهورية. فهل يحق لمعرقلي انتخاب الرئيس العتيد، الحديث عن حقوق المسيحيين المهدورة؟
حمَّل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مسؤولية إهدار الحقوق المسيحية، لتغطية عدم الاتفاق مع حليفهم، أي "حزب الله"، على رئيس يُفرض على الجميع. كما حصل عام 2016.
يتابع التيار العوني، (المسيحي)، المستمد قوته ونفوذه من "حزب الله"، ابتزاز حليفه الشيعي، إيراني الهوى والتبعية. لم تكفه تجربة جهنم واحدة، يريد المزيد.
في خلفية المشهد، من أدار اللعبة وبيّض صفحته مع الجمهور وأنقذ المرضى، "حزب الله". الجميع يعلم أن لا رئيس ما دام الحزب عاجزاً عن فرض مرشحه.
وعندما يتحالف مع رئيس الحكومة السنّي لتفعيل تصريف الأعمال، يضرب عصفورين بحجر. تهدئة مع السنة بتغطية رئيس الحكومة السني، وتسيير أعمال الدولة ولو بالحدّ الأدنى. ما يعطيه مهلة إلى حين تبلور الوضع الإيراني غير المستقر، مع الداخل والخارج.
هكذا أمَرَنا الشيخ نعيم قاسم: "أنتم ملزمون بالحوار للحصول على رئيس لجمهوريتكم!!". عليكم أن تتوافقوا معنا، فدبروا حالكم.
شؤون الناس المتدهورة ليست من شأنه.
ألم يسبق للسيد نصرالله أن أعطانا علم وخبر، أنّه لن يتأثّر من تحليق سعر صرف الدولار ولا بانحدار قيمة العملة الوطنية ولا بإفلاس الدولة برمّتها؟! فالمهم الحفاظ على السلاح.
شاهدت مؤخراً فيديو لمقابلة أجرتها ديانا سكيني مع ناصر السعيدي في جريدة "النهار". لخّص فيها الأخير الوضع الاقتصادي في لبنان وما هو المطلوب للنجاة من جهنم التي تلتهمنا.
أشار السعيدي إلى مفاوضات لبنان مع صندوق النقد، وأنها ترتكز على الخطة المقدمة من الحكومة اللبنانية، والمكونة من خطوات عدّة مطلوبة:
إصلاح بنيوي. يعني البدء بإصلاح قطاع الكهرباء
إصلاح مالي لتخفيض العجز
إعادة هيكلة الديون الخارجية والداخلية
توجه لسعر صرف مرن
خطة واضحة للضمان الاجتماعي وشبكة أمان
خطة لمواجهة المشكلة الأساسية والتي هي الإهدار والنزيف الحاصل بسبب الطبقة السياسية التي فشلت في لبنان
معونة خارجية أو تمويل خارجي لإنقاذ لبنان
يجب تنفيذ مجموعة التدابير هذه والإصلاحات قبل التفاوض مع صندوق النقد أو خلال التفاوض.
هذا الحديث أجري قبل عامين، ولا نزال "تيتي تيتي، متل ما رحتي جيتي"، لم ينفذ أي شيء منها بعد. لأن أي إصلاح يعني نهاية المنظومة ومن يحميها. لا أحد له مصلحة بذلك.
وفي هذا الوقت يستفيد أهل السلطة وأتباعهم من استمرار الأزمة، فيكدّسون المزيد من الثروات، فيما يضيق العيش على الغالبية، التي يسد عليها تخاذلها أي منفذ ممكن.
ألم تُعيد انتخاب هؤلاء مع تغيير طفيف! وعلى وتيرة هذا التغيير الذي لم ينتج أي تغيير فعلي، نحتاج إلى أكثر من نصف قرن لاستعادة استقلالنا.
ويظل السؤال الجوهري، ماذا باستطاعة أي رئيس، من أي فريق كان، أن يفعل حالياً؟
هل سيتمكّن من تلبية ما جاء في البيان السعودي - الصيني: "يجب ألّا يكون لبنان منطلقاً لأعمال إرهابية، أو مصدراً، أو معبراً لتهريب المخدرات، أو نشاطات جرمية أخرى".
أو سينجح لبنان في تلبية ما جاء في البيان الأميركي – الفرنسي - السعودي؟ هل سيطلق يد قاضي التحقيق في جريمة المرفأ؟ هل سيستكمل الترسيم البري؟ هل سيتمكن من تطبيق قرارات الشرعية الدولية؟ هل سيكون باستطاعته فرض الإصلاحات المطلوبة لاستعادة البلد عافيته؟ هل سيتمكن من إيقاف شتم السعودية، التي تتسابق القوى العظمى على التحالف معها؟ هل ستمسك أجهزة الدولة أمن المطار والمرفأ؟ هل سيتمكن الجيش من القبض على المطلوبين للعدالة؟
وكل ذلك يتطلب واقعية وتنازلاً من "حزب الله"؟
في الظروف الحالية لا أمل للبنان واللبنانيين للخروج من المأزق، بانتخاب رئيس أو من دون انتخابه.