محمد حسين أبو الحسن
باكستان على حافة الهاوية... أطاح البرلمان برئيس الوزراء عمران خان عن طريق "حجب الثقة"، في سابقة من نوعها. أزاحته المعارضة ومن ورائها الجيش الباكستاني والأميركيين، وتوج شهباز شريف رئيساً للوزراء، لتسقط البلاد في دوامة الأزمات الحادة. منذ الاستقلال لم يكمل أي رئيس وزراء ولايته القانونية في الحكم، فإما يُغتال وإما يُعزل وإما ينقلب عليه الجيش، الحاكم الفعلي في الدولة الإسلامية النووية. اتهم خان الولايات المتحدة بإسقاطه، بعدما رفض إقامة قواعد عسكرية لها في بلاده، أو السير خلفها في الأزمة الأوكرانية، وشدد على أنه سيقاتل من أجل باكستان، داعياً مؤيديه لإفشال "المخطط الأميركي" الذي نفذته المعارضة، ما ينذر بسيناريوهات مخيفة، تقذف "البعبع النووي" إلى المجهول ... الاستقرار دوماً عملة نادرة في هذا البلد!
أربعة انقلابات
منذ استقلال باكستان عام 1947، لعبت المؤسسة العسكرية الدور الأكبر في صياغة الحياة السياسية والتوجهات الخارجية للبلاد، وهي السند الأهم لأي زعيم باكستاني أو العكس. قام الجيش بأربعة انقلابات بمباركة أميركية، ولم ينجح أي من رؤساء وزراء باكستان في اتمام فترة ولايته (خمس سنوات)؛ اغتيل لياقت علي خان أول رئيس وزراء، واختلف خلفاؤه مع الجيش. تعرض رئيس الوزراء محمد خان جونيجو، لانقلاب قاده الجنرال ضياء الحق، وأُعدم رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو نهاية السبعينات من القرن الماضي، أما ابنته بنازير بوتو، فشغلت المنصب مرتين في التسعينات من القرن الماضي، وعزلت فيهما بسبب مزاعم فساد، ثم جرى اغتيالها. وعزلت المحكمة العليا رئيس الوزراء سيد يوسف رضا جيلاني عام 2012، وتولى نواز شريف رئاسة الوزراء ثلاث مرات متفرقة، وأطيح به كل مرة، وأزيحت حكومته الثانية في انقلاب عام 1999 قاده برويز مشرف القائد العام للجيش، واستبعدته المحكمة العليا قبل نهاية ولايته الثالثة عام 2017. الجديد مع عمران خان أنها المرة الأولى التي ينجح فيها البرلمان في "سحب الثقة" من رئيس الوزراء.
ينتمي خان إلى عائلة ثرية في لاهور، تلقى تعليمه في جامعة أوكسفورد، وذاعت شهرته حين أسهم بحصول بلاده على كأس العالم في "الكريكيت" عام 1992، ثم أسس حزب "حركة الإنصاف" عام 1996، الذي فاز بالانتخابات في تموز (يوليو) 2018، ليصبح عمران خان رئيساً للوزراء، بعدما رفع شعارات: محاربة الفساد وإنعاش الاقتصاد واستقلالية السياسة الخارجية.
ساعد الجيش خان في الوصول إلى السلطة، قبل أن يضع العراقيل في طريقه، منذ أواخر 2021، سواء في ما يتعلق بإدارته لاقتصاد البلاد، إذ ارتفع التضخم إلى مستويات قياسية وتراكمت الديون، في ظل "كورونا"، وتبدّى الأمر أكثر في تحفظ الجيش على ما اعتبره "شطط" خان في مناوءة السياسات الأميركية... تبنَّى الجنرال قمر جاويد قائد الجيش الباكستاني خطاً مناهضاً لتوجهاته، وتجلى ذلك بوضوح في الحرب الأوكرانية، فقد وقف عمران خان في المعسكر الروسي، بينما انتقد قائد الجيش روسيا ودعا إلى وقف "المأساة الكبرى" التي تتعرض لها أوكرانيا، معتبراً أن واشنطن حليف لا غنى عنه. كذلك الخلاف بين خان وقمر حول تعيين الجنرال نديم أنجوم رئيساً للمخابرات الباكستانية، بدلاً من الجنرال فايز حميد، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إذ كشفت تلك اللحظة اتساع الشقاق بين الرجلين، وأمسكت المعارضة بطرف الخيط لتزيد الهوة بينهما وتوجه "ضربة قاضية" إلى عمران خان، بسحب الثقة، وتعيين زعيم المعارضة شهباز شريف، شقيق رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف.
سحب الثقة
يرى نواب "حركة الإنصاف" أن سحب الثقة من عمران خان غير دستوري. كان خان قد استبق محاولة سحب الثقة بإعلانه "حل البرلمان"، لكن "المحكمة العليا" أبطلت قراره، فاجتمع البرلمان وأصدر قراره المتقدم. وفي المقابل دعا رئيس الوزراء المقال أنصاره للاحتجاج على إزاحته، في شوارع العاصمة إسلام آباد، مؤكداً امتلاكه وثائق تثبت تورط أميركا بإغواء المعارضة الباكستانية، خصوصاً حزبا الرابطة الإسلامية والشعب، للإقدام على ما صنعت. فلماذا تريد واشنطن التخلص من خان؟
تعتبر أميركا استمرار خان في منصبه يمثل تهديداً لمصالح الغرب في آسيا الوسطى وأوراسيا إجمالا؛ عدّ الرجل تنامي العلاقات الأميركية - الهندية تجاوزاً لسيادة بلاده، ومن ثمّ سعى لتوثيق علاقات إسلام أباد مع بكين وموسكو، لضمان مصالحها الأمنية، كذلك رفض خان ربط الإسلام بالإرهاب، ووصف حكام العالم الإسلامي بالدمى بأيدي واشنطن؛ لذلك تريد حكومة باكستانية تابعة لها. وصل خان إلى الحكم، عبر برنامج سياسي يقوم على رفض تبعية بلاده لأميركا. كانت إسلام أباد طوال سنوات الحرب الباردة حليفاً أساسيا لواشنطن، ثم تذبذبت تلك العلاقة صعوداً وهبوطا بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، فاتجهت الولايات المتحدة لتعزيز علاقتها مع الهند، العدو التقليدي لباكستان. اتهمت إدارة دونالد ترامب، عمران خان بعدم بذل الجهود الكافية لمواجهة نفوذ طالبان في أفغانستان، وحجبت 255 مليون دولار مساعدات عن باكستان، وبعد انسحاب أميركا من كابول رفض خان طلب واشنطن بإقامة قاعدة عسكرية في بلاده.
وأثار موقف خان المناوئ للغرب، في الأزمة الأوكرانية، حفيظة واشنطن وحلفائها الأوروبيين ضده، وزاد الطين بلة سعيه الحثيث لإقامة علاقات راسخة مع الصين وروسيا؛ كلتاهما استغلت التوتر الباكستاني - الأميركي لتقوية علاقاتهما مع باكستان وقدمتا مساعدات اقتصادية وعسكرية لها. زار خان موسكو عشية بدء تدخلها في أوكرانيا لدفع روسيا إلى إنشاء خط أنابيب لتلبية احتياجات بلاده من الطاقة، فأصدر سفراء 23 دولة أوروبية بياناً طالبوا فيه باكستان بإدانة الاجتياح الروسي؛ وكان رد خان عليهم حاداً: "هل نحن عبيدكم؟ وكل ما تقولونه سنفعله، هل طالبتم الهند بانتقاد روسيا؟.
طفح الكيل
ولما طفح الكيل بالنسبة إليها، أوعزت أميركا إلى الجيش الباكستاني وقوى المعارضة لإسقاط عمران خان، من أجل إعادة ضبط العلاقات الثنائية. دارت العجلة وأُطيح به، بل تجاوز الغضب الأميركي إلى التهديد بتصفيته جسدياً ... قال خان إن حياته في خطر، وأضاف أنه لن يركع أمامها "ولن أسمح لشعبي بالركوع ولن أسمح للمعارضة بالنجاح مطلقاً، وأن سياسة باكستان الخارجية يجب أن تكون مستقلة، ودعا لخروج مظاهرات شعبية داعمة له، وبالفعل خرجت مظاهرات حمل بعضها شعار "الموت لأميركا".
تأمل واشنطن في تشكيل حكومة باكستانية تتسق أجندتها مع التوجهات الأميركية. على مدى ثلاثة عقود قدمت الولايات المتحدة 33 مليار دولار مساعدات، كما تتجه 20% من الصادرات الباكستانية إلى السوق الأميركية، و28% إلى الاتحاد الأوروبي، بينما يذهب 10% إلى الصين و1% فقط إلى روسيا، فالغرب ما زال أهم شريك تجاري لباكستان، برغم مشاركة الأخيرة في مشروع "الطريق والحزام" الصيني، وتوقيع خان اتفاقاً للتعاون مع بكين بقيمة 62 مليار دولار.
فشلت محاولات عمران خان في الإفلات من مصير كل من سبقوه، واعتبرت المعارضة إزاحته انتصاراً للديموقراطية، وقالت إنه فاقم الأزمات المستفحلة؛ بينما أوضح قادة الجيش أن المؤسسة العسكرية ليست طرفاً في التطورات الجارية، ما يظهر رضاها أو مشاركتها في ما حدث، وأن "الرضا الأميركي" شرط لحماية عروش بعض الدول من الاهتزاز، والعكس صحيح!.
برغم ذلك، يتوقع بعض الخبراء أن ترتفع حظوظ عمران خان في الانتخابات المقبلة؛ في آب (أغسطس) 2023، بسبب خطابه المناهض لواشنطن، وسياساته الاقتصادية المنحازة للفقراء والطبقة الوسطى، خاصة وأن المعارضة لا تملك برنامجاً واضحا لحل المشكلات المزمنة في باكستان التي دخلت فصلاً جديداً من الاضطراب السياسي.