بعد زيارة الوفد القضائي الأوروبي لبنان للتحقيق في قضيّتي المصرف المركزيّ والمرفأ، ومع انعقاد الاجتماع الخماسيّ، الغربيّ- العربيّ في فرنسا، للبحث في المسألة اللبنانية، وزيارة ممثلي الدول الخمس للمسؤولين بعد الاجتماع، كثُر الكلام عن "التدخّل الخارجيّ". وهو كلام متكرّر من حيث عنوانه، رافق نشأة لبنان الكبير، لكنّه يأتي اليوم في سياق مؤشّرات فاقعة.
قبل مناقشة الموضوع، فلنستعرض مؤشّرات الحضور الخارجيّ في المشهد العام السياسيّ والاقتصاديّ والماليّ في لبنان اليوم.
بعض المؤشرات في المشهد الاقتصاديّ والماليّ:
- رغم الانتقادات من هنا وهناك، يلتقي معظم اللبنانيّين، سلطة وشعباً، على أنّ المرحلة تتطلّب تدخّلات من صندوق النقد الدوليّ، لمعالجة الوضع الماليّ والنقديّ.
- أمام "إفلاس" خزينة الدولة، تتركّز معظم الحلول المطروحة لمعالجة مطالب القطاعات المختلفة، في التعليم والصحة والقطاع العام والكهرباء والخدمات العامة والغذاء وغيرها، على الاعتماد على مساعدات مالية من جهات مانحة.
- الولايات المتحدة الاميركية هي المقرر الاول على مستوى المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي)، التي يُعتمد عليها بالنسبة إلى المساعدات الدولية الأساسية.
- جرى تلزيم التنقيب عن النفط واستخراجه، الى شركات خارجية، غربية وعربية، في غياب شركة وطنية، أو أسهم للدولة في الشركات الأجنبية.
- يترافق إضراب المصارف مع تزايد الكلام عن ضرورة الشراكة مع مصارف أجنبية، لإعطاء صدقيّة مفقودة لهذا القطاع.
- البلاد مقبلة، على ما يبدو، على دولرة كاملة للسلع والأجور، مع تزايد المطالبة الشعبية بذلك.
بعض المؤشّرات في المشهد السياسي:
- شلل في السلطتين التنفيذية والقضائية، وعجزهما عن إيجاد حلول لصراعاتهما الداخلية.
- التنظيم الأكثر نفوذاً في لبنان على المستوى السياسي، أي "حزب الله" ، صرّح مراراً بأنه يتلقى أمواله وسلاحه من إيران، فضلاً عن تبنّيه العقيدة الدينية- السياسية الخمينية.
- العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، في إطار المجلس النيابي.
- الاتّكال شبه الكامل على مبادرات خارجية للمساعدة في انتخاب رئيس للجمهورية.
- التعويل على تحقيق قضائي دولي في قضية تفجير المرفأ.
- اتساع الاقتناع في أوساط الرأي العام باستحالة الخروج من حالة الانهيار، بدون مؤتمر دولي من أجل لبنان.
الاستنتاج البسيط من خلال هذه القراءة العامة لمؤشرات "التدخّل الخارجي" في لبنان، هو أنّ هذا التدخّل، أصبح جزءاً من المعالجات المتفرقة الجارية حالياً، ومطلباً لمعالجات أشمل، تطال الوضع السياسي والاقتصادي ككلّ.
المعترضون على "التدخّل الخارجي"، فئتان:
- فئة ترفض تدخل بعض البلدان وتحبّذ تدخّل بلدان أخرى، وهذه حال أكثرية الشعب اللبناني وطبقته السياسية. أي انّ هذه الفئة لا ترفض التدخّل الخارجي، بقدر ما هي تنشده من طرف بلدان معينة، وترفضه من طرف بلدان أخرى.
- فئة تنادي بالاستقلالية التامة عن التأثيرات الخارجية، وهذه تشكل أقلية في الاوساط الشعبية والسياسية. مشكلة هذه الفئة انها امّا تفتقر الى أطروحات واقعية للمعالجات الداخلية، او انها لا تتفق على هذا النوع من المعالجات، وهي تتألف بكتلتها الاوسع من أفراد وليس من تنظيمات. لكن هذه ليست المشكلة الأساسية التي تعترض طروحات هذه الفئة. فإذا سألنا افرادها عن اسباب رفضهم للتدخل الخارجي، جاءتنا الاجوبة الآتية، منفردة او مجتمعة:
* لأنّ التدخل يفرض إرادته على الشعب والبلاد، معطّلاً الإرادة الوطنية، من خلال تعطيل أو تقييد عمل المؤسسات الدستورية.
* لأنّه شكل من أشكال الاستعمار هدفه سرقة خيرات البلاد الاقتصادية، واستتباعها سياسياً.
* لأنّه لا يحترم كرامة الشعوب التي يتدخّل في بلدانها ويعاملها بفوقية وبعنف.
يمكننا أن نلاحظ بسهولة، انّ كلّ ما يمكن أن يفعله التدخل الخارجي، تفعله في الواقع، السلطة اللبنانية الحالية اليوم. وهذا هو المأزق الاول أمام رفض التدخل الخارجي، إذ انه بمثابة القبول عملياً، ورغم انتقادها، بممارسات السلطة اللبنانية، التي لا تختلف عن أبشع ما يمكن ان يقوم به التدخّل الخارجي.
فلنتعمّق أكثر في الموضوع ونسأل: كيف نعرّف "الداخل" الذي يتدخل فيه "الخارج"؟ التعريف الأبسط والأكثر واقعية، هو أنّ "الداخل" يعني "الوطن"، بشعبه ودولته وحدوده، وهي العناصر الثلاثة التي يتكون منها الوطن بحسب تعريفه المعتمد في علم السياسة. ما هي حال الوطن اللبناني اليوم؟ الشعب منقسم وتابع بتوجهاته السياسية والدينية الى بلدان خارجية مختلفة؛ الدولة بمؤسساتها شبه منحلة وواقعة تحت هيمنة غير شرعية لتنظيم عسكري- ديني تابع لدولة إقليمية؛ الحدود بين لبنان وسوريا مشرّعة، وتقع تحت سيطرة التنظيم العسكري- الديني المهيمن، في غياب سلطة القوى الأمنية والرسمية اللبنانية، أو بتواطؤ منها.
عندما ينتفي وجود العناصر الثلاثة للوطن، أي معنى يبقى لما نسمّيه "الداخل"؟
عندما لا يعود هناك وطن، بدولة وشعب وحدود، وعندما تتحول السلطة الى طبقة مستبدة وقاتلة وسارقة لشعبها، كلّ هذا التمييز بين الخارج والداخل، بين التدخل الخارجي والقرار الداخلي، يصبح بلا مدلول وطنيّ.
وكأنّ اللغة العربية تفترض هذا الواقع وتحاكيه. فعندما نقول "الداخل"، وكأننا نعني أنّ هناك من كان في الخارج وهو يدخل للتوّ. وعندما نقول "الخارج"، كأننا نعني أنّ هناك من كان في الداخل ويخرج للتوّ. هذا التداخل في المعنى، بين "الداخل" و"الخارج" في اللغة، يعبّر أفضل تعبير عن هذا التداخل والتشابك بين العاملَين، الى حدّ اللغط والخلط بين الاثنين، في الواقع اللبناني.
استعادة "الداخل" شرط ضروري للاستقلالية عن الخارج. وذلك لا يمكن أن يتمّ إلّا من خلال استعادة الوطن، عبر ترميم عناصره الثلاثة: الشعب والدولة والحدود. وهذا يتطلب إرادة وطنية، لا يمكن أن تتبلور إلّا عبر الآليات الديموقراطية. للمفارقة، الديموقراطية في الداخل هي الضمان الاول للاستقلالية عن الخارج. والمدخل الطبيعي لاشتغال الديموقراطية هي الانتخابات، الرئاسية او النيابية او البلدية، مترافقة مع انتخابات في الأحزاب والنقابات والجمعيات. الانتخابات ليست مسألة شكلية، بل هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن الرأي السائد في الجماعات على مختلف المستويات. وهذا الرأي هو ما يصنع الإرادات الشعبية، ومن بينها الإرادة الوطنية، الكفيلة وحدها باستعادة الوطن وحماية استقلاله عن الخارج. وفي هذا السياق، إنّ انتخاب رئيس للجمهورية وليس التوافق عليه، وأيّاً كان هذا الرئيس، هو مدماك في عملية بلورة الإرادة الوطنية.