ندى حمداش
"طِفلي جميل، ليس غبيّاً ولا مجنوناً، لديه قُدرات عالية، يعزِف ويغنّي، يُحبّ الجميع ويتكلّم مثل كل الأطفال ويلعب مثلهم تمامًا وهو ذكي جدًا جدًا. و لكن لا أجد له مدرسة، كل المدارس ترفضه لأن عمره يوازي تلاميذ الصف الثّاني وهو حتّى الآن لا يستطيع القراءة و الكتابة." - أمّ لطفل من ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة.
لطالما تردّدت على مسامعي قصص مشابهة لهذه القصة الصغيرة بحجم الكلام، ولكن كبيرة بحجم الألم والأثر السلبي الذي تتركه في نفوسنا كلّما سمعناها.
كم من طفل يُرفَض سنويًا من الدخول إلى المدارس الرسمية والخاصة في لبنان لمجرّد أن لديه احتياجات تعلّمية خاصّة وتحديات. وحتى وإن سمحوا لهم بالالتحاق بالمدارس، قد لا تقوم المؤسسات التعليمية باتّباع التدابير المناسبة لهؤلاء الأطفال بغاية توفير التعليم المناسب لهم. عوض ذلك، يلتحق العديد من الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة بمؤسسات غير مخوّلة للتعليم، أو لا يحصلون على أي تعليم على الإطلاق ويبقون في المنزل غير فعّالين.
فيما تنصّ اتفاقية حقوق الطفل على الحقّ في التعليم الابتدائي المجاني، والآمن، والذي يدعم مبادئ الاحترام المتبادل والعيش المستدام (المادة 22)، واستنادًا الى القوانين اللبنانية والدولية، التعلّم هو حقّ للجميع بمن فيهم الأطفال ذوو الاحتياجات التعلمية الخاصة. وبذلك، يجب تمكين جميع الأطفال من الوصول إلى تعليم يتماشى مع قُدراتهم بدون أي تمييز أو تهميش. في القانون اللبناني رقم 220، الذي أُقرّ عام 2000، أقرّ حق ذوي الاحتياجات الخاصة في التعليم وخدمات أخرى، لكنه غير مطبّق في لبنان. بقيَ حبرًا على ورق. بعد 18 عاما من إقرار الحكومة اللبنانية قانوناً يضمن حق الأطفال ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة بالتعليم، لم يُبادر ليتحول القانون إلى واقع ملموس.
انطلاقًا أولًا من ثقتي الكبيرة بقدرات الأطفال ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة وأنّهم يستطعون الوصول وقادرون على التطور. وثانيًا، بسبب إيماني العميق بحقّ التعلم لجميع الأطفال، بدأت عملي في مجال التربية التقويمية لتوفير التعليم الملائم لجميع الأطفال عامة والاطفال ذوي الاحتياجات التعلمية بخاصة.
العمل في مجال التربية التقويمية لا يتوقّف على تعليم الأطفال ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة بالطريقة الملائمة لقدراتهم بل هو يكمن في توفير جوّ تعليمي مناسب وداعم ليس فقط للطفل، بل أيضًا للأهل من خلال مساندتهم. بناءً على ذلك، يكون العمل بشكل جدّي على توعية الأهل، التلاميذ والمدرسة على أهمية وجود رؤية واضحة للأطفال من ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة.
خيار العمل في هذا المجال أتاح الفرصة لأن أعطي الدعم لأهالي الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة كما التوجيه الصحيح والمناسب في ما يخصّ التخطيط لمستقبلهم و متابعة دراستهم برغم كلّ التحديات و العوائق.
من خلال عملي في مدرسة تعمل على رؤية الدمج، قمنا بالعديد من الورشات التدريبية التي تسمح للمربين بالتعرف إلى مفاهيم الدمج والتعمق أكثر بفهم المصطلحات المرتبطة بالاحتياجات الخاصة. هذه الورشات عكست الصورة الايجابية لهذه الفئة من الأطفال، وحبّبت المعلمين بالعمل الى جانبهم والأخذ بيدهم للوصول للأهداف المرجوة. فبذلك يعتبر أننا وفّرنا بيئة مدرسية، تربوية وتعليمية حاضنة، دامجة للأطفال ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة.
في المقابل، من خلال عملي في العيادة الخاصّة باستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة، أعمل جاهدة على توعية المجتمع عن موضوع الدمج من خلال نشر نصائح، معلومات، مقاطع مصوّرة توعوية مجّانية تختصّ بكلّ ما يتعلّق بهؤلاء الأطفال. كما أحاول العمل على تطوير ثقة الأهل بأطفالهم ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة من خلال تسليط الضوء على نقاط القوة التي يمتلكها أطفالهم الجميلون.
أسعى بمحاولات عديدة لتوفير بيئة سليمة تحترم الطفل وتعطيه حقّه بالتعلم انطلاقًا من ايماني بأنه يستطيع، وقادر على الانجاز ولو بخطوات بسيطة، فلا تهمّ السرعة ولا الكمية، ما يهمّ هو أن يتمتّع بحقّه كجميع الأطفال بممارسة حياة يومية سليمة وسعيدة، يذهب يوميًا الى المدرسة ويكوّن شخصيته ويصبح لديه استقلالية ذاتية وثقة بنفسه. من بعدها سيكون فردا فعّالا في المجتمع، لديه رأيه وأفكاره.
العقبات التي يواجهها الأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة ليست مقتصرة على وطننا لبنان فقط، فـ "اليونيسكو" تقدّر أن أكثر من ثلث الأطفال الذين هم في سن التعليم الابتدائي والمتوسط ولا يرتادون المدارس، والمقدّر عددهم بـ 121 مليوناً، هم من ذوي الاحتياجات الخاصة.
قالت "هيومن رايتس ووتش" إن على الحكومة اللبنانية أن تطبق وتعزز قوانين حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة. على وزارة التربية تأمين حقّ التعليم الشامل في جميع المدارس بطريقة تحقق أعلى مستوى من الاندماج للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس الرسمية كما الخاصة على حد سواء.
الدمج المدرسي لهذه الفئة من الأطفال يتكلّل بالنجاح من خلال توفير البيئة التعليمية الملائمة لكل طفل. و ذلك عبر تعديل وتكييف المناهج كما توظيف أشخاص متخصّصين بالعمل الى جانب الأطفال ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة.
كلّ طفل هو مُختلف حتمًا، ليس بسبب قدراته التي من الممكن أن تكون أقلّ من أقرانه، بل بسبب تميّزه وتفرّده بنقاط قوّة سنراها جميلة جدًا ان فكرنا بتسليط الضوء عليها وليس فقط على نقاط الضعف. كيفما كان الطفل من ذوي الاحتياجات التعلمية الخاصة، هو كيان وروح بحاجة للدعم، المساندة و الحبّ. هذا الحبّ الذي يراه في عيون أهله والمحيطين به سيعطيه القوة للإنجاز والثقة التي سيراها في عيون من يتدخل الى جانبه ستجعله يتحدى كل العقبات ويؤمن أنه يستطيع تخطي المصاعب والتقدم.
امنحوهم حقّهم بالتّعلّم وستُبهرون.
* مربّية تقويميّة