هل واقعنا الحضاري المشرقي مع التباساته مدخلٌ طبيعيٌّ لفهم جاهلية العقل الذي نعيش في إرهاصاته ورؤاه؟ وكيف لنا أن نؤسّس لمقاربة الموجود واللاموجود والأزلي، انطلاقاً من مكنونات الروح وجدلية التفكّر؟
على مدى عصور كفّر رجالُ الدين العلماءَ والفلاسفةَ والكتّاب، موهمين العباد بأنّهم يطبّقون نظرية التطهّر من رجس المادة الأرضية نحو تهويمات الصفاء الروحي. وقد جاء هذا الفعل من خلفية سياسية بناءً على رغبة الحكّام أو نتيجة معارضة هؤلاء لرجال الدين، فكيف إن كان الحاكم رجل دين؟
تكفير من جرّاء صراع بين السلطتين المدنيّة والدينيّة
هل ما زال مسيطراً الواقع الذي فرض تكفير "هيباثيا الإسكندرانيّة" (٤١٥)م؟ فقد كَفّرتها الرهبنة البطرسيّة، ليس لأنها امرأة، بل لأنّها إنسانة. فقد كانت شهيدة العلم والإخلاص، وقد كان لها الفضل في اكتشاف مسار الأرض الإهليلجيّ حول الشمس، وإشهار التعاليم الأفلاطونيّة المحدَثة، الممزوجة بالكلبية، وهي المرحلة الأخيرة في الانتقال الفكري من الفلسفة اليونانيّة إلى المسيحيّة. "هيباثيا" التي فاقت أباها ومعلمها بالرياضيات "ثيون الاسكندراني"، هي ملهمة "سنتيوس القيرواني" والتي قادته تعاليمها إلى حياة مسيحية حقيقية وأصبح أسقفاً، تُوفيت بعد السحل جرّاً بعربة حتّى الممات على أيدي رهبان مسيحيين، وقد كان هذا الفعل الشيطاني نتيجة صراع بين السلطة الدينية المتمثلة بأسقف الإسكندرية "كيرلس" والسلطة السياسية المتمثلة بحاكم المدينة "أورستيس".
تكفير من أجل الحفاظ على مكاسب السلطتين الدينيّة والسياسيّة
إن كانت مأساة "هيباثيا" نجمت من خلاف بين السلطة الدينيّة والسلطة المدنيّة، فآلاف الضحايا الذين سقطوا من جراء أحكام محاكم التفتيش كان سقوطهم ناجماً عن اتّفاق وثيق ومعلن بين هاتين السلطتين. فهذه المحاكم هي سلطة قضائية كنسيّة استثنائيّة وضعها البابا "غريغوري التاسع" لقمع جرائم البدع والردّة وأعمال السحر في جميع أنحاء العالم المسيحي، واستمر هذا الاستثناء من القرن الثالث عشر إلى السادس عشر. وفي كثير من الأحيان استُخدِمت هذه المحاكم كأداة سياسية، فقد استخدمها الملك الفرنسي "فيليب الرابع" ضد فرسان الهيكل، كما استخدمها ملكا إسبانيا الكاثوليك "فرناندو الثاني" و"إزابيلا الأولى" (١٤٦٨م) بموافقة البابا "سكستوس" ضد المرتدّين والبروتستانت واليهود والمسلمين. وقد اشتهرت باسم محاكم التفتيش الإسبانيّة. فكم كاتباً وعالماً وفيلسوفاً ذهب ضحيّة هذه المحاكم؟ على سبيل المثال لا الحصر، محاكمة العالم "غاليليو غاليلي"، وإدانته من قبل محكمة التفتيش الرومانيّة الكاثوليكيّة عام ١٦٣٣م، وقد تعرّض للمقاضاة بتهمة دعمه لنظرية مركزيّة الشمس، حيث أعلنت رسمياً هذه المحكمة أنّ نظرية مركزية الشمس هرطقة. كما حظرت الكتب التي تتحدّث عن هذه النظريّة، وقد سُجن هذا العالم الذي سبق عصره عام ١٦٣٣م بتهمة قوّة الهرطقة، ومُنعت جميع مؤلفاته وأهمّها: "حوار حول النظامين الرئيسيين للكون"، وبقي تحت الإقامة الجبريّة حتى مماته عام ١٦٤٢م.
إنّ المتأملّ في الرابط الحيوي بين الإسلام كشريعة حياة ونظام عمل وإيمان عميق قويم، وبين مسوّغات الإرهاب في بدائيته المتوحّشة، يخال للوهلة الأولى أنّ نطاق هذا الدين، يكاد يكون أرضاً خصبة لفعل المثاقفة بنمطها الدمويّ العنفيّ. متى يولد النص التأصيلي العلمي القادر على إنتاج مقاربة تثويريّة لواقع النص الإلهي، والذي يعالج قصور الرؤية البشريّة التي تصرّ على أن تبقى أسيرة الخرافة والوهم؟! فالخلط المسموم بين الإسلام والإرهاب، يوشك أن يكون صبغة الأصولية التي ترتدي أثواباً متعددة لجوهر واحد هو توليد مساحة للرعب والرُهاب. فالأصوليّة تُطْبِق على أنفاس المثقف النخبوي الذي لم ولن يجد سبيلاً إلى دفع غلوائها، كما حصل مع معظم المفكرين والكتّاب والفلاسفة العرب والمسلمين الذين سنورد سِيَر بعضهم.
تكفير سببه الإبداع
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الْكِنِدي (٨٠٥م)، هو علّامة عربي مسلم، برع في الفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس، ويُعَدّ أوّل الفلاسفة المشّائين المسلمين. كان شغله الشاغل في أعماله الفلسفيّة هو إيجاد التوافق بين الفلسفة والعلوم الإسلاميّة الأخرى، وخاصة العلوم الدينيّة. تعرّض للضرب وصودرت مؤلفاته لفترة قبل مماته بسبب التكفير، مع أنّه كان مقرَّباً من الخليفتين الأمين والمأمون. تُوفي وحيداً في بغداد عام ٨٧٣م في عهد الخليفة المعتمد. قال عنه الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء: "كان يقال له فيلسوف العرب، وكان متّهماً في دينه بخيلاً ساقط المروءة".
تكفير سببه الاعتماد على ثقافة الشعوب الغريبة
الفارابي (٨٧٤م)، عُرف بأبي نصر واسمه الأساس محمد. هو فيلسوف من أهم الشخصيات الإسلامية التي أتقنت مجمل العلوم مثل الطّب والفيزياء والفلسفة والموسيقى وغيرها. "شيخ الفلاسفة والحكيم"، كفّره أهل العلم؛ وقد رموه بالتكفير، بسبب ما وقع في كتبه الفلسفيّة من انحراف عن موجبات دين الإسلام، وأخذه بمقالات الفلاسفة الخارجة عن نطاق المعلوم من الدين الإسلامي بالضرورة. وقد جاء في إحدى الفتاوى: "فإن الفارابي من الّذين اشتغلوا بالفلسفة والمنطق الأرسطي فضلّوا وأضلّوا من بعدهم". وقد ذكر الإمام ابن القيّم ضمن كتابه "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" بعد عرضه لذكر الفارابي لأرسطو وكفره بالله وتعظيم أتباعه وتلقيبهم إيّاه بالمعلم الأوّل حسب قوله: "... المقصود أنّ الملاحدة درجت على أثر هذا المعلّم الأوّل، حتّى انتهت نوبتهم إلى معلّمهم الثاني أبي نصر الفارابي..."
تكفير سببه ربط الدين بالفلسفة
أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا البلخي (٩٨٠م)، اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما. عُرف باسم الشيخ الرئيس، دعاه الغربيون بأمير الأطبّاء، له ٢٠٠ كتاب في مواضيع عديدة ترتكز على الفلسفة والطب. هو من أوائل من كتب الطب في العالم. كُفّر لأنّه ربط الفلسفة بالدين، متقبّلاً بعض الأفكار الفلسفيّة مع أنّه رفض بعضها الآخر. فقد شرح مفهوم النبالة الأفلاطونيّة للانبعاث، ورفض مفهوم أفلاطون للوجود المسبق للروح. السبب الرئيسي لتكفيره هو استخدامه منطق أرسطو لتطوير حججه. نقل الحافظ الذهبي عنه في سير أعلام النبلاء عن ابن خلكان أنه تاب في آخر حياته، فقال: "ثم اغتسل وتاب وتصدّق بما معه على الفقراء، ورد المظالم، وأعتق مماليكه، وجعل يختم القرآن في كل ثلاث، ثم مات يوم الجمعة في رمضان".
تكفير سببه السياسة
هناك فلاسفة ومفكّرون وكتّاب وروائيّون مسلمون وعرب كثر، كُفّروا بسبب أفكارهم وتدويناتهم، كابن الهيثم، وأبي العلاء المعرّي، ونصر حامد أبو زيد، ونجيب محفوظ، وأخيراً وليس آخراً فرج فودة. فهل يمكن أن يكون استشهاد الكتّاب السياسيين والصحافيين أمثال سليم اللوزي، وسمير قصير، وجبران التويني ولقمان سليم وغيرهم من ضمن فتاوى سريّة، من أجل سيطرة نظام يعتمد الدين غلافاً بينما تسيطر على داخله صنميّة الحوار، عاملاً على وأد إمكانية تشكّل هوية اجتماعيّة تزاوج بين العصرنة وموثوقيّة الإسلام بتجلياته الروحيّة؟!
يمكن أن تؤدّي فتوى التكفير، من دون تحليل سفك دماء المكفّر، إلى نوع من الحوار بين المفكرين والعلماء، وخاصة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. ويمكن أن ينتج عن هذا الحوار إعادة قراءة للنصّ الديني، وفق معايير ترتكز على التجدّد من جوانيّة النصّ لا من خارجه. فهل يمكن أن يكون لفتوى التكفير، المرفقة باستباحة الدماء، مقابل مبلغ من المال، انتهاء صلاحيّة؟ وهل المرميّ بهذا النوع من الفتاوى، مثل الكاتب الهندي سلمان رشدي، صاحب رواية "آيات شيطانية"، ستظل تلاحقه لعنة الفتوى حتى بعد مماته؟ مع أنّ معظم هذا الجيل لم يقرأ هذه الرواية!