النهار

هل يُطيح سيناريو حرب نووية بمفهوم دول عدم الانحياز أو المحايدة؟!
هادي جان بو شعيا
المصدر: "النهار"
هل يُطيح سيناريو حرب نووية بمفهوم دول عدم الانحياز أو المحايدة؟!
من مخلّفات الحرب الباردة.
A+   A-
 تشكَّلَ حلف شمال الأطلسي "الناتو" في الأساس كمنظّمة عسكريّة دوليّة للوقوف بوجه التوسّعات السوفياتيّة، إذ بعد النصر الذي حقّقه الاتحاد السوفياتي مع باقي الحلفاء على ألمانيا النازية، بات الفكر الشيوعي الذي كان يتبنّاه جذّابًا حول العالم؛ وذلك يبدو طبيعيًا نظرًا للنصر الذي حقّقه بوجه النازيين.

على الأثر، قامت الولايات المتحدة الأميركية ومعها دول غربية عدّة بتشكيل تحالفات سياسيّة وثقافيّة لمواجهة المدّ الشيوعيّ، بعدما كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها في العام 1945. بعد ذلك، خطّطت لتشكيل تحالف عسكريّ للتصدّي لتنامي القدرات العسكريّة السوفياتية، وتمّ التوصل بالفعل إلى فكرة تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي التي تُعرف اختصارًا بـ"الناتو" في العام 1949، واختيرت العاصمة البلجيكية بروكسيل عاصمة للحلف، نظرًا لما شكّلته من مهد لولادة معاهدة الدفاع الأوروبي المشترك، ونواةً لحلف "الناتو" قبل انضمام الولايات المتحدة إليه.

ومع مرور الوقت، شهد هذا الحلف توسّعًا على حساب الاتحاد الروسيّ، حتى بلغ الأمر بدول أوروبية عدّة، لطالما رفضت الانضمام إلى الحلف، على غرار فنلندا والسويد، أن أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الالتحاق به. وبالرغم من ذلك، توجد دول أوروبيّة مهمّة عدّة لا تزال ترفض فكرة الانضمام إلى الحلف؛ ذلك أن هذه الدول تفضّل الالتزام بالحياد للحفاظ على مصالحها الاقتصادية من جهة، ولتجنّب ويلات الحروب والصراعات من جهة أخرى. ولعلّ سويسرا تعتبر أشهر هذه الدول على الإطلاق، ذاك البلد الذي يُطلق عليه البعض "بنك العالم"، لأنّه الوجهة الأكثر أمانًا في العالم لأصحاب الملايين والمليارات الذين يبحثون دومًا عن ملاذ آمن للحفاظ على أموالهم ومقتنياتهم. وبالرغم من أن سويسرا بلد ذو مساحة محدودة، ولا تملك أيّ موادّ خامّ، فإنّها تُعتبر أكثر دول العالم نجاحًا في مجالَي المال والصناعة، وتربطها علاقات بدول العالم قاطبةً. لذلك، تنتهج سويسرا سياسة الحياد حتى لا تخسر أحدًا وفق سياسة تراكم الأرباح من الجميع. وبهدف الحفاظ على حيادها، أضافت مادةً أساسيّةً إلى دستور البلاد، وهي الدولة التي لم تنضم إلى الأمم المتحدة حتى العام 2002.

وعليه، ومن أجل الحفاظ على هذا الحياد، الذي يدرّ الكثير من الأموال للخزائن السويسرية، ممّا يوفّر لشعبها الأمن والأمان والرخاء، ترفض سويسرا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، الذي قد يضعها في مرمى الاستهداف الروسي، وربّما في مرمى الاستهداف الصينيّ في المستقبل.

أما الدولة الأخرى التي ترفض الانضمام إلى الناتو فهي النمسا؛ تلك الدول، التي منذ استقلالها في العام 1955، قرّرت تبنّي سياسة الحياد الدائم الذي يعتبر مادة أساسية في دستور البلاد، إذ يؤكّد القانون النمساوي أنّه في جميع الأحوال لن تنضم البلاد لأي تحالفات عسكرية كما أنها لن تسمح لأيّ دولة بإنشاء أو إقامة قواعد عسكرية على أراضيها؛ إلا أن سياسة الحياد التي كانت تتبنّاها تغيّرت إثر تفكّك الاتحاد السوفياتي في العام 1991، حين انضمت النمسا للاتحاد الأوروبي في العام 1995 لتُصبح جزءًا من السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد، فضلاً عن مشاركتها في بعض عمليات حفظ الأمن حول العالم. ومع ذلك، ترفض البلاد فكرة الانضمام إلى "الناتو"، ولا تزال حتى اليوم ترفض إقامة قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها.

يُضاف إلى هاتين الدولتين، اللتين ترفضان الانضمام إلى الناتو، قبرص. وقد لا يصحّ إطلاق عبارة رفض على علاقة قبرص بحلف شمال الأطلسي، لأنّ عدم محاولة انضمام سياسييها إلى الحلف لا يرتبط بسياسة الحياد، بل بإدراكهم المسبق بأنّهم لن يستطيعوا الحصول على مثل هذه العضوية بسبب الفيتو التركي عليهم، وهو الفيتو الذي يحاول بوساطته الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استخدامه الآن ضدّ فنلندا والسويد، بعدما هدّد علانية بعرقلة قبول انضمام البلدين إلى الحلف.

وقد قالها صراحة الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس إنه من المبكر التفكير في الانضمام إلى حلف الناتو، لأن هكذا محاولة ستواجه بمعارضة تركيّة شديدة، وهو على يقين من أن المعارضة التركية ستلقى آذاناً صاغية في داخل دهاليز الحلف، خصوصًا أنّهم بحاجة إلى الموقف التركي ضدّ الغزو الروسيّ لأوكرانيا؛ ذلك أن الحكومة التركية قدّمت الدعم العسكري للأوكرانيين بواسطة الطائرات المسيّرة، والمعروفة بطائرات "بيرقدار"، فيما لا يزال أعضاء الحلف ينتظرون المزيد من الدّعم التركيّ لأوكرانيا، خصوصًا أن العلاقات التاريخية الروسية - التركية ليست جيّدة، ودونها ملفّات كثيرة معقّدة على غرار الملف السوري والصراع الأذربيجاني - الأرمينيّ. ولذلك يعي القبارصة جيّدًا أن الصوت التركيّ في داخل "الناتو" قويّ ومسموع الآن، غير أنّ ذلك قابل للتغيّر مستقبلاً وفق تبدّل المصالح.

في الوقت نفسه، نجد أن دولة رابعة هي جمهورية إيرلندا ترفض الانضمام إلى الناتو حتى الآن، لأن لديها تعريفها الخاص للحياد حسبما جاء على لسان رئيسها مايكل هيغنز، الذي دان الغزو الروسي لأوكرانيا وقال بأن الحياد يجب أن يكون حيادًا إيجابيًا وليس سلبيًا حسب وصفه. ومع ذلك، فجمهورية إيرلندا ترفض الانضمام إلى الحلف، وتتبع سياسة عدم الانحياز العسكريّ منذ عقود، كما أن سياستها الخارجية مبنية على أساس الخلاف مع بريطانيا حول إيرلندا الشمالية، التي فصلتها بريطانيا عن الجنوبية في العام 1921، والتي لا تزال جزءًا من العرش البريطانيّ حتى الآن.

يُذكر أن خلاف الشماليّين مع الجنوبيّين ليس بسبب بريطانيا فقط بل بسبب خلاف طائفيّ أيضًا، حيث سكّان جمهورية إيرلندا الواقعة في الجزء الجنوبي ينتمون في الأغلب إلى المذهب الكاثوليكيّ في حين أنّ سكّان إيرلندا الشمالية ذوو أغلبية بروتستانتية.

أما الدولة الخامسة والأخيرة فهي مالطا، التي تعتبر إحدى أصغر دول العالم وأكثرها ازدحامًا من حيث الكثافة السكانيّة، وهي ترفض الانضمام إلى الناتو، لأنها دولة صغيرة لا تملك القدرات العسكرية أو الاقتصادية الكافية للدخول في صراعات وحروب. ولذلك، ينصّ دستورها على أن تبقى مالطا على الحياد، وأن لا تنضمّ لأيّ تحالفات عسكرية.

في المحصلة، وبالرغم من أن معظم هذه الدول التي ترفض الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" تفعل ذلك وفقًا لسياسة الحياد التي تتبنّاها، فإنّ ذلك كلّه قد يتغيّر حسب تغيّر المصالح، وحسب تحوّل طبيعة الصراعات السياسيّة والعسكريّة الحالية؛ ذلك أن بلدًا مثل سويسرا يُعتبر من أكثر البلدان حول العالم استعدادًا وجاهزية لسيناريو نشوب حرب عالمية ثالثة، بالرغم من كونها دولة محايدة بتأييد معظم دول العالم، وهي لا تأمن على نفسها من أن تتحوّل حتى من دون إرادة شعبها إلى جزء من أيّ حرب عالميّة مقبلة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستبقى هذه الدول بمأمن إذا ما تطوّرت الحرب الدائرة حاليًّا إلى حرب نووية؟!
 
 
 
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium