النهار

إلى شيعة "الثنائي الشيعي": هل تريدون حقّاً العيش بحرية ومساواة وسلام مع باقي اللبنانيين؟
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
إلى شيعة "الثنائي الشيعي": هل تريدون حقّاً العيش بحرية ومساواة وسلام مع باقي اللبنانيين؟
ثنائي "أمل" - "حزب الله".
A+   A-
لا أحتاج الى استطلاعات الرأي لأميل الى الاعتقاد أن معظم أفراد الشعب اللبناني يدور في ذهنهم السؤال الذي طرحته في عنوان المقال.
 
أطرح السؤال مباشرة على شيعة "الثنائي الشيعي"، الذين تربطني بالكثير منهم، نساء ورجالا، علاقة رفقة أو صداقة. أعرف تماما أن قيادتَي "الثنائي" هي المعنية أكثر برسالتي، لكن ما يهمني هو رأي المواطنين الشيعة الذين ألتقي بهم وأعيش معهم، لا قياداتهم الذين ربما لن ألتقي بهم أبدا، والذين، مثلهم مثل قيادات الطوائف الأخرى، يعيشون في جزرهم الخاصة. رسالتي هذه، هي تحديدا بسبب رغبتي ألا أتوقف عن العيش معهم، في وطن يحتضننا جميعاً، ونستطيع أن نعيش فيه بحرية ومساواة وسلام.
 
طرحت منذ سنة 2020 سؤالا آخر كعنوان لمقال في "النهار": "هل نحن أمام مسألة شيعية في لبنان؟"
 
ملامح خصوصية شيعية ظهرت لي بوضوح في حينه، على أثر واقعتين بارزتين، أسستا مع غيرهما للمرحلة السياسية الحالية.
 
الواقعة الاولى هي الانتخابات النيابية، التي تمايزت فيها الطائفة الشيعية عن غيرها، من حيث تماسكها، واحتكار الثنائية الشيعية التمثيل النيابي فيها، وممانعتها أي تغيير في نخبها السياسية. هذا لم يكن بجديد من حيث نتيجة الانتخابات، بل الجديد هو ان الانتخابات جرت للمرة الأولى على أساس قانون انتخابي نسبي، فسّخ كل الطوائف الأخرى، كمؤشر إيجابي لتفكك الوحدات الطائفية لصالح تشكلات سياسية مختلفة.
 
الواقعة الثانية والأهم، هي الانتفاضة اللبنانية. هنا أيضاً تمايزت الطائفة الشيعية عن غيرها من الطوائف الأخرى.
 
أولاً، من حيث ضعف المشاركة الشعبية الشيعية، بالمقارنة مع المشاركة من الطوائف الأخرى. ثانياً، من حيث تصدر القيادات الشيعية الجهات المعارضة للانتفاضة، ووقوفها سداً منيعاً وبشكل معلن، امام أي مسّ بالسلطات القائمة، التي هتف المنتفضون ضدها. ثالثاً، من حيث مهاجمة شباب الثنائية الشيعية ولمرات عدة الشباب المنتفضين وخيمهم في وسط بيروت. رابعاً، من حيث إطلاق هتافات مذهبية من مثل "شيعة شيعة شيعة"، في وقت كانت الجماهير الشعبية من الطوائف الأخرى، تكاد تخجل من التصريح عن انتماءاتها المذهبية. خامسا، من حيث نسبة تفاعلها مع الأزمة المعيشية، فقد بدا واضحاً وجلياً، عدم تأثر جماعة "حزب الله" بالأزمة وانهيار العملة الوطنية، مثل سائر اللبنانيين، بسبب الدعم المالي الإيراني بالدولار الأميركي.
 
لا مبالغة في القول إن أحد أبرز العوامل التي أدت إلى لجم تطور الانتفاضة في اتجاه الضغط الفعلي على السلطة واجبارها على تقديم تنازلات، على المستوى السياسي والاقتصادي، هو "الموقف الشيعي"، القيادي والشعبي. ولا مبالغة في القول أيضاً إن أبرز الحجج التي قدمتها القيادات والجماهير الشيعية لتبرير هذا الموقف، هو ان الانتفاضة ومن ورائها قوى محلية ودول أجنبية، كانت تستهدف سلاح "حزب الله"، على رغم ان الانتفاضة كانت أكثر من حريصة على عدم تناول هذا الموضوع من ضمن مطالبها.
 
بغض النظر عن صحة هذه الحجة أو عدم صحتها، بدا سلاح "حزب الله"، من وجهة نظر القيادة والجماهير الشيعية على حد سواء، فوق كل الاعتبارات المعيشية والاقتصادية والسياسية والوطنية.
 
ان لهذا الامر دلالات عميقة. فسلاح "حزب الله" بالنسبة إلى معظم اللبنانيين أصبح مشكلة ديموقراطية، تجعل القوة العسكرية تتكلم في السياسة، كما حصل في 7 أيار 2008، وتتكلم في القضاء كما حصل عندما هدد وفيق صفا القاضي بيطار في قصر العدل، مما عطّل المسار القضائي كليا في قضية تفجير المرفأ. وهو أيضاً مشكلة سيادة وطنية، تجعل حزباً عسكرياً من خارج مؤسسات الدولة يتكلم باسم الدولة في علاقاتها الخارجية، ويحتكر قرار الحرب والسلم، ويخوض حروباً في دول أخرى، متحالفاً مع هذا الفريق ومعادياً آخر.
 
في المقابل، بالنسبة الى معظم الشيعة اللبنانيين، والى شيعة "الثنائي" تحديدا، وأرجو ان أكون مخطئا، تحوًل سلاح "حزب الله" إلى قضية مذهبية، تجعلهم يعتقدون، ان حقوقهم المنتقصة تاريخياً والمستعادة حديثاً بواسطة دعم السلاح، لن يضمنها الا السلاح، وليس وحدة اللبنانيين على أساس الحرية والمساواة والسلام، ولا حتى استراتيجيا دفاعية ضد إسرائيل، تحافظ على السلاح لكن تضعه بإمرة الدولة.
 
مشكلة سلاح "حزب الله"، كما تبدو لي، هي مشكلة ان يثق المواطنون الشيعة بالمواطنين اللبنانيين الآخرين، بدون ان يكونوا حاملين للسلاح، وان يثق المواطنون الآخرون بـ"الثنائي الشيعي" وهو يحمل السلاح. وقد دلّت العلاقات الخاصة بين البشر، أو العلاقات بين المواطنين في الدول، انها لا يمكن أن تُبنى بثقة، وتنمو وتستقر بسلام، الا باحتكار الدولة وحدها للسلاح، تحت إمرة السلطات السياسية المنتخبة من الشعب، مصدر جميع السلطات.
 
"لسنا في معرض اصطفاف بين فريقَيْن، أو وراء مرشّحَيْن أو منطقَيْن سياسيَّيْن، نحن أمام خيارَيْن، إما الاحتكام للآليات الدستوريّة والديموقراطيّة أو الخضوع إلى ثقافة الفرض والترهيب والتخوين وتحدي إرادة اللبنانيين المعتمدة من المنظومة وعلى رأسها ثنائي أمل-حزب الله."
 
هذا الموقف، الصادر حديثاً، قبيل الجلسة الاخيرة لانتخاب رئيس للجمهورية، ليس لحزب "القوات اللبنانية" او لحزب "الكتائب" او لـ"التيار الوطني الحر". انه لحزب "الكتلة الوطنية"، الذي وقف عميده التاريخي ضد الحرب الطائفية ودفع ثمن ذلك، محاولات اغتيال وتهجيراً ونفياً. انه لحزب، عزلته الميليشيات المسيحية خلال الحرب، وها هو يعيد بناء نفسه على اسس الاعتدال والانفتاح والتزام الدستور والدولة الواحدة المستقلة. يمكننا بناءً على هذا الموقف تقدير موقف الرأي العام المسيحي من مجريات انتخاب رئيس جمهورية للبنان اليوم. وقد تكرر مثل هذا الموقف على لسان كثيرين من قيادات الطوائف الأخرى، التي وضعت هدفاً للانتخابات الرئاسية، هو إسقاط سليمان فرنجية، كرد فعل على محاولة "الثنائي الشيعي"، "فرض وترهيب وتخوين وتحدي إرادة اللبنانيين" تماماً كما جاء في موقف "الكتلة الوطنية". هذا فضلا عن الاستهتار بالموقف المسيحي الموحّد للكتل المسيحية، والرافض لفرنجية، في حين انه جرى دائماً فرض انتخاب رئيس المجلس النيابي دون أي منافسة على الاطلاق، حتى عندما كانت الاكثرية النيابية غير مؤيدة له.
 
هذه المواقف من الانتخابات الرئاسية، غير منفصلة، عن فشل العهد العوني الذي فرضه ورعاه "حزب الله" والذي أدى إلى انهيار البلاد، ولا عن "المناورة" العسكرية التي نظمها "حزب الله" قبل فترة وجيزة، ولا عن عملية إطلاق الصواريخ من الجنوب اللبناني في اتجاه اسرائيل، التي اتّهمت بها منظمات فلسطينية، في وقت كان يجري الترويج لـ"وحدة جبهات المقاومة". كل ذلك يجري في ظرف يئن فيه الشعب اللبناني من الفقر وانهيار الاقتصاد وتعطل المؤسسات السياسية والقضائية، ولا يمكن لأحد تحمل فكرة، مجرد فكرة، أعمال عسكرية، وتدمير ومعاناة شعبية إضافية.
 
جلسة مجلس النواب الاخيرة توّجت التوجس من مواقف "الثنائي الشيعي" من العملية الديموقراطية ككل، بعدما عطّل "الثنائي" للمرة الالف، انعقاد الدورة الثانية للانتخابات، رغم وجود مرشحَين متنافسَين. وبرهن رئيس المجلس مجدداً عن استهتاره بإرادة النواب، حين رفض إعادة التصويت بعد اتضاح ضياع صوت من أصل العدد الإجمالي للذين اقترعوا، فخرج من الجلسة، غير مبالٍ بصرخات النواب المعترضين، المؤكدين عدم دستورية ما حصل.
 
لم يعد هناك أدنى شك، ان سلوك "الثنائي الشيعي"، بات يُغضب اكثرية الشعب اللبناني، ويدفعهم للتفتيش عن صيغة عيش سياسية، تزيح عن كاهلهم وعن كاهل أولادهم واحفادهم، عبء هذه الهيمنة التي أصبحت لا تطاق، وتعرّض البلاد الى المزيد من الضياع والانهيار. مما جعلني اطرح السؤال المؤلم: هل يريد شيعة "الثنائي" حقا العيش بحرية ومساواة وسلام مع باقي اللبنانيين؟
 
أطرح السؤال بحسرة، لأن ثمة اقتناعاً في قرارة نفسي، بأن الطائفة الشيعية اختزنت في تاريخها، وأكثر من غيرها، طاقة تغيير نحو الأفضل للمجتمع اللبناني:
- الموقع الهامشي للطائفة الشيعية في لحظة تأسيس النظام الطائفي لدولة الاستقلال، غرس في وعي نسائها ورجالها نزعة وجودية مناهضة للنظام الطائفي.
- الموقع الجغرافي المحاذي للحدود مع دولة إسرائيل التي احتلت فلسطين، نمّى في أوساط الطائفة الشيعية وعياً وطنياً وعربياً وعالمياً خاصاً، تطور لاحقاً بعد الاحتلال الإسرائيلي للبنان، إلى تجربة رائدة في المقاومة الشعبية للإحتلال.
 
- الاصطدام الشعبي مع الممارسات الميليشيوية للفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان، بلور وعياً وطنياً مستقلا عن الوعي القومي العربي.
 
- اختبار الصراع الاجتماعي في أوساط التيارات اليسارية.
 
المواكب للتحولات الاجتماعية- الاقتصادية التي أحدثتها السياسات العادلة لفؤاد شهاب بين الطوائف والمناطق، سمح بتطور وعي اجتماعي يخصص لسياسات الدولة دوراً مركزياً في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
 
- تجربة الحرب سمحت بوعي خطأ الخلط بين الصراع الاجتماعي والصراع الطائفي وأخطاره من جهة، وبين الصراع الاجتماعي الديموقراطي والعنف الأهلي من جهة أخرى.
 
-"تجربة حزب الله" وممارساته للهيمنة على بيئته بواسطة السلاح والمال والدين، والمترافقة مع التبعية الكاملة لإيران، سياسةً وثقافةً، ساهمت مجتمعة، في ترسيخ وعي ديموقراطي علماني لدى فئة شيعية معارضة، غير منفصل هذه المرة، عن شرط السيادة الوطنية الذي تضمنه الدولة وحدها. وعبّرت هذه الفئة غير القليلة عن مواقفها خلال الانتفاضة، وقمعها "الثنائي" بالقوة في مناطق كثيرة من الجنوب والبقاع، مما أدى إلى تقليص عددها.
 
سُرّب عن لقاء ممثل الراعي بنصرالله، ان هذا الأخير يريد ضمانات، مؤكدا أن السنيورة كان يريد تهجير شيعة لبنان إلى جنوب العراق سنة 2006. لا أعرف مدى صحة ما سُرّب او مدى صحة ما يقوله نصرالله، لكن لا شك أن "الثنائي" يعمل من أجل صيغة حكم جديدة في لبنان، يترجم فيها سياسياً فائض القوة العسكرية، صيغة قد تشمل، معالجة لمشكلة السلاح، من طريق تقليد "الابتكار" العراقي الخاص بـ"الحشد الشعبي"، اي شرعنة التنظيم العسكري لـ"حزب الله"، ككيان مستقل من ضمن القوى العسكرية اللبنانية، وبتمويل من موازنة الدولة.
 
سعي "الثنائي" الى صيغة حكم جديدة، هو في اعتقادي، لب المشكلة، على مستوى المساواة والسلام المرجوين بين اللبنانيين، وعلى مستوى تسريع إيجاد معالجات سياسية واقتصادية ووطنية للانهيار المتمادي. وهو تحديدا ما يتوجس منه مواطنو الطوائف الأخرى، ولو بدرجات متفاوتة. ولا أبالغ اذا قلت إن التوجس وصل الى أعلى درجاته في البيئة المسيحية، مما تُرجم شبه اجماع ضد سليمان فرنجية مرشح "الثنائي"، وحماسة اكثرية المسيحيين الساحقة للفيديرالية، لم يسبق أن وصلت الى هذا الحد. فكيف السبيل إلى طمأنة جميع اللبنانيين، أفراداً وطوائف، بمن فيهم الشيعة، على وجودهم وحرياتهم، وليس فقط طمأنة "الثنائي الشيعي" على استمرارية نفوذه؟
 
السلاح ابن الخوف، وهو يخيف ولا يطمئن، لا المسلّح ولا الاعزل. أخطر ما فيه، كما رددت مراراً، انه يقتل صاحبه أيضاً، لأنه يحل محله.

اقرأ في النهار Premium