النهار

قطار السعودية السريع ... وعقيدة "الجماعة"
الملك محمد بن سلمان (أ ف ب).
A+   A-
لماذا تستضيف السعودية كل هذه القمم السياسية والاقتصادية الدولية؟ ولماذا تحرص على مشاركة الدول الخليجية والعربية؟

تساؤل يتردد كثيراً هذه الأيام، فبالإضافة إلى المؤتمرات مع الدول العظمى على مستوى القمة ووزراء الخارجية والطاقة والمناخ والاقتصاد والاستثمار، التي تشارك فيها دول مجلس التعاون الخليجي الست، والدول العربية المجاورة، العراق والأردن ومصر واليمن، هناك لقاءات ثنائية بين القيادة السعودية والقيادات الدولية، في السعودية وفي أوروبا وآسيا ووسط آسيا وأفريقيا ودول الكاريبي. 
 
وفي الأشهر المقبلة، يقترب موعد القمة الأفريقية - السعودية، والأفريقية - العربية، والقمة العربية مع دول أميركا الجنوبية، وزيارة ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، لبريطانيا. وهذا ما أُعلن عنه حتى الآن ومتوقع المزيد. 

عقيدة العمل الجماعي
والاستراتيجية هنا تبدو أكثر وضوحاً لمن اطلع على رؤية السعودية 2030 التي تركز على الانفتاح الكوني، والتعاون الإقليمي، والتكتل والتكامل الخليجي والعربي والإسلامي مع العالم النامي. مع تنشيط العلاقات مع المحاور والمنظمات والأقطاب الدولية، بمبدأ الحياد الإيجابي، وبروح الندية والشراكة المربحة والمحققة للمصالح الوطنية. 

فلكي تتحقق أهداف التنمية المستدامة، وتنجح مشاريع الرؤية، لا بد من تصفير المشاكل، وإطفاء الحرائق، والتفرّغ للعمل المشترك، بدءاً بمنطقة الشرق الأوسط، التي تطمح الاستراتيجية السعودية لتحويلها الى أوروبا الجديدة. 

وفي هذا الإطار تأتي مبادرة الشرق الأوسط الأخضر لزراعة مليارات الأشجار، وتصفير الانبعاثات الكربونية قبل عام 2060، وتحسين المناخ، وتمطير السحاب، وإعادة تدوير وإدارة الثروات المائية، والحفاظ على البيئة. كما تشمل مبادرات كونية، مثل تدوير الكربون، بإعادة استخدامه، والتحوّل الى الطاقة المستدامة، والمتجددة، كالهيدروجين الأخضر، والأمونيا الزرقاء، وطاقة الشمس والرياح والبحر والأنهار. 

الاتجاهات الأربعة
ومؤتمر القمة الأخير مع اليابان ركز على الاستفادة من التقنية اليابانية في تحقيق هذه المشاريع، واستيراد اليابان لمنتجات "نيوم" من الهيدروجين والأمونيا. كما أعلنت الصين في زيارة رئيسها ومنتدى الأعمال العربي الصيني عن مخططات كبرى لبناء قاعدة صناعية متقدّمة في جيزان، جنوب السعودية، والمشاركة في بناء مدينة "ذا لاين" الجديدة، وغيرها من المشاريع الضخمة في نيوم والمدن السعودية الجديدة. أما كوريا الجنوبية فقد سبق إعلانها المشاركة في المشاريع البتروكيماوية الجديدة، وسلاسل الإمدادات، والبنية التحتية اللوجستية، وصناعة السفن. 

وإذا اتجهنا غرباً، فالقائمة الطويلة تشمل صناعات مختلفة كالطيران والبحرية والدفاع والطاقة النووية والمتجدّدة، ولعل أبرزها الاتفاقيات التي أُعلنت مع فرنسا وإسبانيا وبريطانيا. وفي جنوب العالم يشكل انضمام السعودية الى منظمات "بريكس" و"شنغهاي" و"آسيان" و"الاتحاد الأفريقي" والجنوب أميركي، تحولاً هاماً يشير الى سياسة استراتيجية تعمل على تنويع الشراكات الدولية في كافة القطاعات. 

شراكات لا تحالفات
 يأتي ذلك بعد إعادة مراجعة وتقييم الحلف التاريخي مع الولايات المتحدة الذي وقعه الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على ظهر المدمرة الأميركية كوينزي عام 1945 على مبدأ النفط مقابل الأمن. فلا السعودية اليوم بحاجة الى الحماية الأميركية، ولا أميركا بحاجة الى النفط السعودي. 

والمشاريع والاستثمارات المتبادلة بين الرياض ونيودلهي وبكين وجوهانسبرغ وبرازيليا وموسكو وأنقرة بلغت مئات المليارات خلال العقد الأخير فقط. وبعد ثلاثة ملتقيات أعمال سعودية تركية، خلال بضعة أشهر، أُعلن أن حجم الاستثمارات "الخاصة" فقط في تركيا وصل الى 280 مليار دولار. وما تم توقيعه خلال جولة الرئيس طيب رجب إردوغان الأخيرة لجدة والدوحة وأبو ظبي، قارب مئة مليار دولار أخرى. يضاف إلى ذلك التعاون المستجد في مجال الصناعات الدفاعية والمتقدمة، وفي مجالات الطاقة والزراعة والتعدين والسياحة والتعمير، في البلدان الأربعة، لتصبح الأرقام تريليونية.

هذا ما يكشفه الحاضر، ولكن ماذا عن خطط المستقبل كالتوجهات الجديدة نحو أفريقيا وآسيا الوسطى، مثلاً، بمواردها الطبيعية المذهلة؟ وماذا عن أبعاد الاتفاق السعودي الإيراني الذي يتوقع أن يتوّج بزيارة هامة للرئيس إبراهيم رئيسي يتم خلالها وضع أسس تعاون اقتصادي وتجاري واستثماري وسياحي وتعليمي ورياضي غير مسبوق. بالإضافة الى ترسيخ ما تم التوافق عليه في الجوانب الأمنية والسياسية؟ 

العرب والنظام العالمي الجديد
العالم يتشكل اليوم في محاور وأقطاب جديدة قديمة. فالشرق شرق والغرب غرب، وما بينهما مساحات رمادية يتنافس عليها المتنافسون. وعالمنا نحن في قلب هذه المعادلات، والاستقطابات، وإن لم نشكل كتلتنا الخاصة، ومساحتنا المحددة، ونخاطب العالم بلغة واحدة، لغة المصالح، وبصوت واحد يرفض التدخل في شؤوننا، والهيمنة على قراراتنا، والتعدي على مصالحنا، ويصر على الحياد الإيجابي تجاه الصراعات، والتعاون بروح الندية والمشاركة مع التكتلات والمنظمات، والانفتاح المتوازن على العروض والفرص والمبادرات... إن لم نقم بكل هذا اليوم، فإن الاستعمار القديم سيتشكل من جديد، بأسلوب هيمنة جديدة. وسنجد أنفسنا نتسابق في ماراثون منافسة على كسب رضى القوى العالمية، على حساب مصالحنا الوطنية ووحدتنا القومية. 

هذا الهدف، الذي أُعلن في قمة الأمن والتنمية العربية في مدينة جدى قبل أشهر، هو الذي تسعى السعودية اليوم، من خلال كل هذا الحراك الخليجي والعربي الى تحقيقه مع القوى والتحالفات الدولية. وهو الذي تسعى الى مشاركتنا فيه دول يجمعنا بها التاريخ والدين والثقافة، والجغرافية السياسية، كإيران وتركيا وإثيوبيا، ودول تربطنا بها أواصر الدين والتاريخ، كدول آسيا الوسطى والدنيا وأفريقيا. 

قطار التنمية انطلق من الرياض، عبر جسور والتعاون والانفتاح، ومرّ بعواصم المنطقة، وبلغ مشارق الدنيا ومغاربها، من موسكو وبكين، الى واشنطن ولندن، وآن الأوان لأن يشارك الجميع، وتعمّ الفائدة على الجميع. 

* أستاذ بجامعة الفيصل

@kbatarfi
 

اقرأ في النهار Premium