بعد أن هدأ إرهاب داعش وخفتت موجة الرهاب الإسلامي، جاءت محاولة اغتيال سلمان رشدي، التي قام بها هادي مطر، كي تؤجّج المشاعر والنقاشات مجدّداً. فالمعلومات تشير أنّ بطل القتل الجديد، تغيّرت طباعه وشخصيته بعد زيارته لوالده في الجنوب اللبناني، والأخير منفصل عن عائلته في أميركا. عزل نفسه وأصبح انطوائيًّا ومتديّناً محبطاً منذ عودته. ما جعل والدته تستنتج أنّ سلوكه انطوى على خلل عقليّ.
ولفهم هذه الحالات تفيدنا استعادة الرغبة الأضحوية التي تتملّك فجأة أعداداً من الشباب باسم الإسلام. فما الذي يسيطر عليهم ويأخذهم نحو هذا الخيار الايديولوجيّ المتطرّف؟
مهما كان خطاب الإسلام السياسي وتجسيده، يتعلق الأمر أساساً بصورة توّجت ما يقارب القرن من التأسلم، استنتجها فتحي بن سلامة، المحلل النفسي الفرنسي ذو الأصول التونسية، في كتابه "Un furieux désir de sacrifice"، من الخطاب والتوصيف الإسلاميين. لكن أيضًا انطلاقاً من تجربته العيادية.
غالبًا ما ترجمت الإسلاموية بلغة النظريات السياسية المعاصرة، في إغفال كون هدفها الجوهري فبركة قوة فوق – دينية، تعقد صلة مع المقدّس الأثري والأضحوي، حتى ولو كانت تلجأ الى التقنية الحديثة.
وبحسب فرهاد خسرو خافار، جاء نحت المفهوم الجديد للراديكالية في علم الاجتماع ليغيّر النظرة السابقة، التي كانت تعتبر أن الإرهاب مجرد عنفٍ ايديولوجي وسياسي – اجتماعي تستخدمه المجموعات. فتم الأخذ بعين الاعتبار الأفراد وذاتياتهم وسيرهم وتفاعلاتهم مع المجموعات التي ينتمون اليها. لذا صار من المهم التماس سيرورة التاريخ الشخصي الذي أوصل الفرد الى العنف.
في هذا السياق، عاين بن سلامة ظهور ما أسماه طيف "المسلم الأعلى" من خلال ممارسته العيادية في منطقة فرنسية. راقب على مرّ السنوات تصاعد عذاب تم التعبير عنه بـ "لست مسلمًا بما فيه الكفاية". عذاب هؤلاء الاشخاص يقودهم الى تكوين إيمان مشتعل. تحرّكهم رغبة في التجذّر أو في إعادة التجذّر؛ ما يدفعهم إلى المطالبة بالعدالة لندوبهم الهوياتية، وللبحث عن الارتفاع عبر حركة مفارقة من التذلل المكابر، ورغبة بنفح الاحترام والخوف معاً.
من كان يقابلهم بن سلامة في العيادة، كانوا يتبنّون فجأة خطابًا فوق – إسلامي. كما لاحظ مرور عدد من الشبيبة، قبل اندفاعتهم الدينية، بفترة من اللامبالاة والاكتئاب ومشاعر عدم الاكتفاء والشعور بالعار واعتبار أنفسهم نكرة. أي باختصار ألم وجودي يتماشى مع ما أطلق عليه المحلّل النفسي Francis Pasche "اكتئاب الدونية".
عندما يحصل اللقاء مع الدين، ينطلق مصعد النرجسية. وكلّ من لديه نقص في احترام الذات ولديه شعور بأنّه من دون قيمة، يستعيد الكرامة بالوصول الى القدرة العظمى. يصبح المختار من الله، بطلًا تنفتح أمامه أبواب المجد. يسمح له ذلك أن يكون خارج القانون أو فوقه، باسم قانون الله الأعلى.
من كان يعتبر نفسه "نفاية" يصبح بطلًا. ولا يعود هو نفسه الشخص ساكن شقّة تبعث على الازدراء ولا حبيس تقاطعات مسدودة ولا يضلله صمت الاهل. يقبع في أعلى طابق من التجاوز متأمّلًا البشر في الأسفل بشفقة تقترب من الازدراء.
فكيف إذًا حال هادي الذي التقى بطرف مزدوج القوة كـ"حزب الله"، من جهة يعتبر نفسه وكيل الله على الأرض، ومن جهة أخرى يهيمن فعليّاً على لبنان ويقاتل في سوريا وما بعد بعد سوريا؟
التحليل النفسي ليس مجرّد "علاج أو معالجة" لبشر خلف جدران العيادة. فالتجربة العيادية تسمح باستكشاف كيفية تبلور نمط جرح "المثال الاسلامي" المحتاج الى الترميم أو حتى الثأر، كموضع تقاطع بين العيادي والاجتماعي، ما يسمح بفكّ شيفرة رسمة او ترسيمة figure ما أسماه بن سلامة "المسلم الأعلى"، على غرار الأنا الأعلى الفرويدي. وهو يؤكّد أنّ هذا ليس مفهومًا concept ولكن فقط notion، أي مبدأ وأداة مساعدة خاضعة للفحص.
من زاوية النظر هذه يصبح ممكناً الحديث عن "مشكلة المسلم"، ومعرفة الى أيّ درجة يمكن بلورتها من أجل التقدّم في فهم ما يحدث في ايامنا هذه للمسلمين ويهزّ العالم. فلا ينبغي ان يغيب عن بالنا انّ الاحتراب المدني بين المسلمين كان في بداية القرن العشرين حول الأسئلة الحاسمة: ماذا يعني أن تكون مسلماً؟ ومن يملك سلطة التعريف؟ وماذا يعني أن تكون رجلاً او امرأة؟ خصوصاً عندما تخرج هذه الاخيرة من سجنها وتظهر جسدها الذي يقلب النظام البطريركي للجنس والرغبة.
من هنا انهيار اليقينيات الهوياتية التي عينتها الاسلاموية كعدو داخلي؛ الأمر الذي مهّد لتسلط هجاس المسلم الاعلى.
فعندما نحلل خطاب الاسلاميين الراديكاليين نجد أنّ باعثه جرح " المثال الاسلامي". إنّه "المثال" المجروح جراء خسارة مبدأ السيادة السياسي – التيولوجي لعموم المسلمين منذ أن ألغيت الخلافة عندما تفكّكت السلطنة العثمانية في العام 1924.
ويسجّل في هذا السياق أنّ حركة الإخوان المسلمين تأسست في العام 1928. بحيث يمكن القول انّ الحركة الاسلامية ولدت من تروما تلك الصدمة التي انتشرت كالموجة بين الحشود. أمّا الإساءات الممارسة ضدّ المسلمين فتمتدّ من الحروب القديمة الى حروب الشرق الأوسط وفلسطين وأفغانستان ومن ثمّ العراق. يضاف اليها انتشار العنف وصور الدمار والمذابح وموت الأولاد وتشريد العائلات. كلّ هذا يسهّل التجاوب مع نداء العدالة هذا.
هذه الحروب والصراعات، التي تجتاح قسمًا من العالم الاسلامي، حرّرت قوى هدامة ملأت مسرح الواقع قسوة وعنفًا ودمارًا وفرزت ضحايا وجلادين، أبطالًا وخونة، إرهابيين ومروّعين.
الراديكالية وتنفيذ فتاوى القتل، أولى خطوات استعادة الكرامة ببلوغ القدرة العظمى لمن ينقصهم احترام الذات ولديهم الشعور بأنّهم من دون قيمة. فالمعروض ليس مجرّد الاعتراف بالظلم الذي عاناه الشخص، بل يصبح أيضًا المختار من الله.
عندما يصبح الله حيّاً بين أيدي البشر، يتهيّأ لهم أن لا شيء مستحيل أمامهم، على عكس جملة دوستويفسكي التي يضعها على لسان كارمازوف: "اذا مات الله، يصبح كلّ شيء مسموحًا به". استشهد بن سلامة بلاكان الذي اعترض على هذه الفكرة متبنّياً عكسها "أن يموت الله، لا يعود أيّ شيء مسموحًا به".
إنّ عالمًا من دون الله، يعني عدم وجود آخر يمنع ويسمح. يصبح الانسان متروكًا لرغباته الخاصة، إذًا لذنبه الخاص، فيجد لنفسه ممنوعات أكثر قسوة.