النهار

الرأي العام العربي كما الغربي يجرّدان القضية الفلسطينية من معناها السياسي والوطني
غسان صليبي
المصدر: "النهار"
الرأي العام العربي كما الغربي يجرّدان القضية الفلسطينية من معناها السياسي والوطني
الدمار في غزة.
A+   A-
إن كانت عملية حماس قد هدفت إلى وقف التطبيع العربي مع إسرائيل، فقد نجحت على الأقلّ في تأخيره. لكن المفارقة أن الدافع المفترض لوقف التطبيع، بالنسبة إلى حماس وغيرها، هو الحفاظ على القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، في حين أن تداعيات عملية حماس أدّت عملياً إلى تبرير استمرار إسرائيل بقتل الشعب الفلسطيني، وتدمير ممتلكاته، وفتح الطريق أمام تهجير السكّان من غزة. فضلاً عن سقوط إضافي لمشروعية القضية الفلسطينية في وعي الرأي العام الغربي، بسبب ارتكاب حماس لجرائم بحق المدنيين الإسرائيليين.
 
الإشكالية تاريخية بين الوسيلة والهدف. ليس فقط بمعنى إن كان الهدف يُبرر الوسيلة، وفق ما تتساءل الأخلاقيات السياسية، أو إن كان يمكن لوسيلة عنفيّة أن تؤدي إلى أهداف سامية، وفق ما تتساءل الأخلاقيات اللاعنفية، بل المقصود هنا تحديداً، إن كانت الوسيلة مناسبة لتحقيق الهدف الذي تسعى إليه، بالمعنى الاستراتيجي، وبغض النظر عن الأخلاقيات. فقد ظهر حتى الآن أن الوسيلة، التي اعتمدتها حماس، أطاحت بالهدف الذي سعت إليه، أي إعلاء شأن القضية الفلسطينية وحماية حقوق الشعب الفلسطيني، في سياق تاريخيّ انحداريّ لا يسمح بتوقّع تراكم إيجابي لعمليات كهذه.
 
العلاقة بين الوسيلة والهدف لا تشغل بال إلا نسبة قليلة من الرأي العام العربي والفلسطيني المعنيّ بعملية حماس بحدّ ذاتها، وليس بما كانت تسعى إليه أو بتداعياتها. الأهم بالنسبة إلى هذا الرأي العام هو أنها ردّة فعل على الاحتلال، شرعيّة ومبرّرة، بطبيعة الحال.
 
وفي حين أن العلاقة بين الوسيلة والهدف تُطرح عادة في أوساط الرأي العام الغربي، تزامنا مع مختلف الأحداث السياسية، فإنها شبه غائبة عندما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية. فالأفعال هنا تُؤخذ أيضاً بحدّ ذاتها، من دون ربطها بواقع الاحتلال أو بأهداف محدّدة تسعى لتحقيقها. فلا حاجة لتفسير أسباب وأهداف ما تقوم به حماس كمقاومة فلسطينية، ولا داعي لتقييم سلوكها نسبة إلى خياراتها. يكتفي الرأي العام الغربي الموجّه من السلطات ووسائلها الإعلامية بنعت حماس بالإرهابية، لأنّ عملياتها تؤدي إلى قتل مدنيين إسرائيليين.
 
النظرة إلى القضية الفلسطينية مختلفة جذرياً بين الرأي العام العربي والفلسطيني والرأي العام الغربي، غير أنها تؤدي إلى فهم لا سياسي لهذه القضية، يكاد يشبه التواطؤ. الرأي العام العربي أصبح ينظر إلى المقاومة العسكرية الفلسطينية كمجرّد ردة فعل على الاحتلال، والرأي العام الغربي ينظر إليها كفعل مستقلّ عن الاحتلال. في الحالتين، الفعل العسكريّ خالٍ من البعد السياسي.
 
عند العرب والفلسطينيين بمعظمهم، تحوّلت الوسيلة، أي المقاومة العسكرية، إلى هدف، وتحوّل معها الهدف إلى ما يشبه "فشة خلق" مكتفية بذاتها وغير مبالية بنتائجها، وكأنها تغذّي نفسها بنفسها كدليل للصمود وعدم الخضوع. المشروع السياسي مغيّب، ولا صلة واضحة بينه وبين ردة الفعل، هذا إن أُعلن عنه بوضوح.
 
عند الغرب، يُحصر الهدف بالوسيلة، الإرهاب للإرهاب. لا يوجد ما قبله، أي الاحتلال، ولا يوجد ما بعده، أي التحرّر من الاحتلال والمشروع السياسي.
 
الإنسان الفلسطيني بدوافعه ومشاعره مغيّب أيضاً. عند العرب ومعظم الفلسطينيين، أصبح كائناً غاضباً فحسب. طالما هو شبه ميت في حياته اليومية، فلا بأس في أن يكون مصيره الموت، إن عبّر عن غضبه كيفما اقتضى الأمر. لا أفق آخر، لا خيارات أخرى، لا مشروع سياسياً قابل للحياة، يحتضن هذا الغضب ويوجّهه نحو ما يمكن أن يرضي تطلّعات هذا الغضب.
 
عند الغرب، لا رابط بين معاناة الفلسطينيين وظروف عيشهم، و"إرهاب" حماس. ما ينطبق على فهم السلوك العنيف للإنسان الغربي لا ينطبق على الإنسان الفلسطيني. العلوم الإنسانية والاجتماعية تُجنّد جميعها لتفسير العنف الفرديّ والجماعيّ في البيئات الغربية، كظاهرة غريبة عن المألوف، ولا بدّ من أن يكون لها أسباب، فيما يبدو السلوك العنفي لجماعة فلسطينية كأنه نزعة طبيعيّة متأصلة في النفس البشرية الفلسطينية. وهذا بالطبع احتقار ضمني للإنسان الفلسطيني ونظرة دونية إليه، على عكس النظرة إلى الإنسان الإسرائيلي، الذي من حقه أن يمارس العنف دفاعاً عن نفسه، وحفاظاً على معتقداته وتميّزه وديمقراطيته، في بيئة معادية.
 
الرأي العام العربي والفلسطيني، كما الرأي العام الغربي، لن يتغيّرا، إلا إن استعادت القضية الفلسطينية معناها الإنساني والسياسي والوطني. وهذا لن يكون، وفق ما برهنت لنا التجربة التاريخية، إلا باستعادة الشعب الفلسطيني لإرادته الوطنية، من خلال انتفاضة مدنية تحاكي الانتفاضة الأولى، وتنتزع المبادرة من القوى الإقليمية، وتطرح من جديد مشروعها السياسي الوطني التحرري بأبعاده الإنسانية.
 
الانتفاضة المدنية بدلاً من المقاومة العسكرية لم تعد مسألة تتعلق بالوسيلة الفضلى في ظروف انعدام التوازن العسكري، بل أصبحت شرطاً لاستقلالية القضية الوطنية عن التبعية الإقليمية ووسيلتها المال والسلاح؛ وإلا علينا توقّع انتقال النزاع إلى الداخل الفلسطيني في صراع دامٍ على السلطة، سيكون ميدانه هذه المرّة الضفة الغربية من فلسطين المحتلة.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium