غسان صليبي
فلنتأمّل ما تبقّى من مبنى الأهراء قبل أن يسقط نهائيًّا على أرواح قتلى تفجير المرفأ. فلننظر إليه جيّدًا قبل أن يذر غبارُه في عيون أهالي القتلى.
الاحتجاج على قرار هدم الأهراءات، مصدره الأساسي الخوف على زوال شاهد مهم على جريمة التفجير. البعض يضيف إلى ذلك الحرص على إبقاء آثار حدث غيّر معالم العاصمة، تمامًا كما تفعل شعوب أخرى، رغبةً منها بعدم تكرار المأساة، وضرورة حفظها في الذاكرة الشعبيّة.
خلاصة المحتجين، أن المجرمين يريدون للحياة أن تستمر كأنه لم يجرِ تفجير بيروت. في الواقع لا يحتاج المجرمون لهدم مبنى الأهراء لتحقيق مبتغاهم. فبعد سنتين على تفجير المرفأ تغيّر المشهد. انتقلنا من المطالبة بإحقاق العدالة، إلى المطالبة بالقرار الظنّي، واستقررنا الآن على مطلب توقيع وزير المال على مرسوم التعيينات القضائيّة. وهذا ما يريده الذين يتهربون من العدالة، أي استرجاع القضيّة من يد القضاء ووضعها في يد السياسيين، ولا سيما الذين يعارضون تحقيقات القاضي بيطار. وقد استكملوا مهمّتهم بانتخاب الأعضاء الجدد للمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. العنصر الوحيد الذي لم يتغيّر في مشهد 2020 هو رفع الأهالي صور شهدائهم في شوارع بيروت.
كيف وصلنا إلى هنا؟ كان السؤال الأهم بعد انفجار بيروت سنة 2020: كيف نواجه عنف السلطة ومن يدعمها؟ لم يعد السؤال ماذا نريد بل كيف نحقق ما نريد. لم نعد نسأل عن برنامج مجموعات الانتفاضة التي كانت قد بدأت بالانكفاء. فبعد انفجار بيروت، فرض المطلبُ نفسه بقوة الانفجار: إسقاط السلطة التي تقتلنا والتي دمرت عاصمتنا. لم يعد لنا ترف البحث بين مختلف الأطروحات. لم نعد نكتفي بالقول "كلن يعني كلن"، بل أصبحنا نسمّيهم بوضوح ونضع صورهم في قلب ساحة الشهداء، وحبل المشنقة على أعناقهم. مع تزايد التركيز على رأس السلطة الرسمية، وحرق صور رئيس الجمهورية.
أصلاً لم يكن الخلاف على البرنامج ولا على المطالب. منذ بداية الانتفاضة كان الاتفاق شاملاً: إسقاط الحكومة، تأليف حكومة مستقلة بصلاحيات استثنائية، إجراء انتخابات نيابية مبكرة. عندما اصطدمنا بممانعة "حزب الله" لإسقاط السلطة، بالموقف وعلى الأرض، بدأنا باختراع الحجج لعدم المواجهة، والإكثار من التنظير والتحليل وإصدار الوثائق التي باتت كافية لتفصيل أفضل البرامج الاقتصادية والسياسية. عندما تعجز الجماعة عن الفعل تُكثر من الكلام، فتنقسم وتبرر الانقسامات بالإيديولوجيات والطموحات الشخصية. حتى لو سلمنا بوجود كل هذه العوامل المعيقة للفعل، الا أن "إمكان" الفعل في غياب العنف المضاد، كان سيفرض نفسه على المنتفضين، فيحسنون التنظيم والوحدة.
سنة 2021 وبعد مرور سنة على الانفجار وما نجم عنه من قتلى وجرحى وتدمير ونزوح، استغربنا كيف أن الانتفاضة استكانت بدل أن تتوسع وتأخذ طابعًا أكثر صداميةً. لم ننتبه أننا كنا في مرحلة ما يسمّى باضطراب ما بعد الصدمة. تظهر الأعراض النفسية والجسدية لاضطراب ما بعد الصدمة عادة في غضون نصف عام بعد الحدث الصادم. و"يؤدي الحادث الصادم إلى اهتزاز فهم الشخص لذاته والعالم من حوله وإلى تشكل أحاسيس العجز لديه".
لكن تصاعد المواجهة فجأة بين أهالي ضحايا المرفأ وأركان السلطة، بعد صدور استدعاءات القاضي البيطار لبعض المسؤولين السياسيين والامنيين، وممانعة المجلس النيابي ووزير الداخلية عملية استجوابهم، طرح في حينه تساؤلات حول حجم اصطدام الأهالي بالسلطة، وموقف مجموعات الانتفاضة من هذا الاصطدام المحتمل. للأسف ما لبثت المواجهة أن تراجعت واستقرت على اعتصامات محدودة ومتقطعة حتى اليوم.
لم يكن بالإمكان الوصول إلى ما وصلنا إليه، والانتقال من مطلب العدالة إلى مطلب توقيع الوزير، لولا تدخّل العنف في المسار القضائي، الذي افتتحه وفيق صفا، القيادي في "حزب الله"، عندما هدّد القاضي البيطار في عقر داره، في قصر العدل.
نحن اليوم نشهد تساقط مبنى الأهراء، كدليل حسي على تهالك العدالة. لكن تهديم الأهراء في ظروف سنة 2022، له معنيان رمزيان إضافيان يتجاوزان الهم القضائي والهم الأثري.
إنه يرمز أولاً إلى الشح في القمح والطحين، وما نجم عن ذلك من طوابير الذل أمام الأفران. أما الرمز الثاني فهو أن هدم الحائط المتبقي من المبنى، هو في الواقع هدم لهذا الجدار الذي وقف سنة 2020 حائلاً دون تصدّع بيروت بأكملها بفعل عصف الإنفجار. ما يفتح الباب رمزيًّا، أمام استباحة كاملة للعاصمة.
هذه الاستباحة تتم بالفعل وليس رمزيًّا، عبر اتجاهين يغذي أحدهما الآخر. الاول هو المطالبة "المسيحيّة" بتقسيم بلدية بيروت بلديتين. من الخطأ النظر إلى مطالبة "مسيحيين" بتقسيم بلدية بيروت من منظور بلدي ضيّق، كما أنه من الخطأ إغفال الجانب "البلدي". فالنزعة "المسيحيّة" نحو اللامركزيّة الموسّعة تعاظمت كثيرًا بعد تفجير المرفأ الذي طال أساسًا ما كان يُعرف أبان الحرب بــ"بيروت الشرقيّة"، أي الجانب المسيحي منها. وهذه النزعة تغذّت بتصاعد هيمنة "حزب الله" على البلاد وافتراض ضلوعه في استجلاب النيترات إلى المرفأ. وساهمت أحداث الطيّونة – عين الرمانة في تدعيم هذه النزعة، والمطالبة اليوم بتقسيم بيروت هي ترجمة محليّة لهذه النزعة العامة على مستوى البلاد ككل. لكن الدافع المحلّي "البلدي" ليس غائبًا. فإذا كانت الحجج "المسيحيّة" المعطاة تدور حول "التوزيع غير العادل" لموارد البلديّة ولإنفاقها بين المناطق "المسيحيّة" والمناطق "المسلمة"، فإن الخلفيّة السياسيّة للإنتقادات أكثر من واضحة. لا سيما أن "التيار الوطني الحر" هو من يقود الحملة وقد عوّدنا على التحرّك كلّما كان هناك تنافس على المواقع، مطبّقًا القاعدة العامّة التي رسا عليها "تفاهم مار مخايل"، وهي "الواقع" لـ"حزب الله" مقابل "المواقع" لـ"التيار الوطني الحر"، حتى لو بدت المعركة في بيروت أنها مع الطرف السنّي.
الجانب الأكبر من مشكلة بلدية بيروت هو الفساد، وإن كانت بعض نوازع المعنيين مذهبيّة. وكان من الأجدى على مستوى مصالح "المسيحيين" الفعليّة، تركيز "الثنائي المسيحي" ("التيار الوطني" و"القوات") على هذا الجانب، ومحاولة تقديم مشاريع إصلاحيّة. لكن الأخطر في كل ذلك، أن الثنائي المذكور، يشبّه تقسيم البلدية بتقسيم الدوائر الإنتخابيّة، التي لا تترتّب عليها تبعات اقتصاديّة وثقافيّة ووطنيّة. فضلاً عن انه يتناسى أن ما يطالب بتقسيمه هو بلدية العاصمة، رمز وحدة الكيان، الذي لا ينفك عن المطالبة بالحفاظ عليه، إضافة أن العاصمة هي المساحة الكبرى المتبقيّة لممارسة التنوّع والتعدّد بأشكاله المختلفة، وهذا أيضًا ما يدّعيان الحفاظ عليه.
أمّا الإتجاه الثاني في سياق استباحة العاصمة، فهو تمدّد ثقافة "حزب الله" في اتجاه رأس بيروت، نموذج الاختلاط الطائفي والمذهبي، والتنوّع الثقافي. وهذا ما تجلّى، في حدثين متزامنين، إقفال مكتبات واستخدام "مسرح المدينة" كمكان لمجالس العزاء العشورائية، في وسط شارع الحمراء.
المسألة تتجاوز غزوًا ثقافيًّا يمارسه "حزب الله". فعندما أدخل صورًا عملاقة لقاسم سليماني إلى معرض بيروت الدولي في بداية السنة، لم يطرح ثقافة بديلة بقدر ما أكّد شعار "السيف أصدق إنباءً من الكتب".
واليوم، هو لا يقدّم نموذجًا آخر للمسرح، بقدر ما يحوّل المسرح من مكان لحوار صاغه سيناريو مبتكر يحاكي الحاضر، إلى مكان يغيب عنه الحوار ويكرّر سيناريو قديمًا يحاكي الماضي. المسرح في الحالة الثانية، يكاد يشبه معنىً آخر لكلمة مسرح، وهو يظهر عندما نقول مثلًا "مسرح الجريمة".