طلبت مني إحدى الوسائل الإعلامية الحديث عن حصاد السعودية للعام 2022، ووعدت بالمشاركة. ثم بدأت عملية جرد لأهم الإنجازات، ومن بينها العدد غير المسبوق من المؤتمرات والندوات والفعاليات التي عقدت في البلاد خلال العام الحالي. وجدت أنها أكثر مما جمعت في مقالاتي السابقة هنا، ومنها "قمم السعودية"، وإنجازات المرأة، ومشاريع نيوم والتقنيات الجديدة والمناخ ومبادرات السعودية والشرق الأوسط الخضراء، ويصعب جمعها في مساحة محدودة من دون أن يصبح الموضوع تقريراً رقمياً لا يسهل هضمه. وخشيت أن يشعر البعض بأن فيه تباهياً استعراضياً لكاتب سعودي.
من حفل "تريو نايت" ليلة رأس السنة.
ما وراء الحراك
ثمّ خطر ببالي أن أتحدّث عمّا وراء هذا الحراك ودوافع هذا الزخم، وضمانات استمراره؛ وأن أبحث عمّا لم يتحقّق بعد لعلّي آتي بجديد؛ وأن أسعى مع القارئ للوصول إلى سرّ النجاح والعوامل التي ساهمت في تحقيقه. فما تحقق خلال عام واحد يستعصي على التفسير، ويكفي الإشارة إلى تنظيم أكثر من 3800 فعالية ترفيهية بحضور أكثر من 80 مليون شخص من كافة أنحاء العالم، وارتفاع نسبة تملّك المواطنين للمساكن من 47% إلى 60% بين العامين 2016 و2020.
وعلى الصعيد الأممي، حققت السعودية 80 نقطة من أصل 100 في مجموع مؤشرات تقرير البنك الدولي "المرأة وأنشطة الأعمال والقانون" لعام 2022، بزيادة 10 نقاط عن عام 2020. وتصدرت الدول المانحة في قائمة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حيث بلغت قيمة مساعداتها الانسانية والتنموية العام الماضي 7.12 مليار دولار، وأي بنسبة 1.5% من الدخل القومي. كما حققت المركز الأول في الدول المانحة لليمن حيث بلغ الدعم الاتقصادي والتنموي المباشر في 2021 - 2022 عشرة مليارات دولار، أي مايعادل 33% من إجمالي الدعم الدولي.
وبذلك تكون السعودية قد تجاوزت هدف منظمة الأمم المتحدة بتخصيص 0.7% من دخلها القومي للمساعدات الإنسانية والتنموية للدول الأكثر احتياجاً.
تشكيك الغرب
إذن، ماذا تريد السعودية من هذا الحضور المذهل بكلّ المقاييس؟ وهل صحيح ما يردّده الإعلام الغربي من أن كل ما يجري تبييض للصورة، ومحاولة للتغطية على قضايا حقوق الإنسان؟ وهل تستطيع السعودية تحمل التكلفة المادية والتحديات التقنية العالية لمشاريعها الطموحة من دون الاستعانة بالغرب، خاصّة الولايات المتحدة؟ ومن سيوفر الأمن لهذه المشاريع في ظلّ التوترات الإقليمية والتهديدات الإيرانية والأنشطة الارهابية؟ ثم، من سيضمن استمرارية الدعم الحكومي للمشاريع بعيدة المدى، والمبادرات التي تبدو أشبه بالخيال العلمي، ولم يسبق تنفيذها على أرض الواقع من قبل؟
الغريب أن هذه التساؤلات ليست جديدة، وليست خاصة بالسعودية، وتبدو كقصائد الهجاء التي يغّير فيها الشاعر اسم الضحية في كلّ مرة! ولعلّ أحدث الأمثلة على ذلك الهجمة الإعلامية والحقوقية بنفس المبرّرات، والنفس العنصريّ البغيض، على قطر؛ وتصاعدها بالرغم من حلّها لمشكلات العمال، والنجاح الباهر في تنظيم أعظم مونديال في التاريخ.
وكذا الهجوم المماثل على دولة الإمارات لنجاح خططها التنموية وسحبها البساط من تحت عواصم مصرفيّة دولية، وبلدان سياحيّة عريقة؛ ومصر التي قلب جيشها الطاولة على أصحاب مؤامرة "الربيع العربي".
تجارب الماضي
وقد سبق للسعودية مواجهة عواصف التشكيك عندما أصرّ الملك فهد بن عبد العزيز في الثمانينيات الميلادية على بدء مسيرة التحول الصناعي والزراعي والتنموي، فأعلن عن مشاريع الجبيل وينبع للصناعات الأساسية والتحويلية، وإنشاء شبكة من موانئ التصدير، ومجمعات التخزين، ومصافي النفط على الخليج العربي والبحر الأحمر، وربطها بأنبوب نفطيّ يمتدّ من حقول البترول في شمال شرق البلاد إلى مدينة ينبع الصناعية بأقصى غربها.
كذلك وسع القاعدة الزراعية والحيوانية والسمكية بإقامة شركات كبرى في القصيم وتبوك وحائل وجيزان، لحقت بها أخرى في مناطق المملكة المختلفة، وإنشاء مخازن للغلال في المدن والموانئ الرئيسية، وشبكة متكاملة للتوزيع والتصدير.
من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
تحديات وانتصارات
ولخدمة هذه المشاريع، استكملت الدولة مشاريع هائلة لبناء شبكات الطرق وتحلية المياه والكهرباء، والمطارات والموانئ، مع اهتمام واسع بالإسكان والصحة والتعليم والدفاع والأمن. بدأت بالخطة الخمسية الأولى (1970 - 1975) في عهد الملك فيصل، والثانية (1976 - 1980) في عهد الملك خالد. وشكلت نقلة كبرى للبلاد وتهيئة لبنية تحتية ضخمة ساعدت على استيعاب المبادرات التي فاجأت الغرب في مجالي الصناعة والزراعة.
لم تكن السعودية يومها تملك الموارد البشرية والتقنية والمصرفية، ولا القاعدة الصناعية والتنموية التي لديها اليوم كما لم يكن لديها تجارب سابقة تبني عليها، وتحاجج المتردّدين والمشككين فيها. ومع ذلك، أصرّ ملوكها على مواصلة المسيرة، وفرض المشروع الوطني بتجاوز الغرب إلى الشرق، والاستعانة بكوريا الجنوبية واليابان تقنياً، وبخلاصة العقول والسواعد التي جرى تدريبها وإعدادها على مدى عقود. أما المال، فلم يكن ينقصها. وتولّت بنوكها المحليّة عمليّة توفير القروض للشركات الأجنبية بالمشاركة مع البنوك والصناديق الاستثمارية الدولية، ونجحت.
شركاء الشرق
غنيّ عن الذكر، أن كلّ ما سبق من خطط حقق النجاح المنشود، وأوصلنا إلى مستوى الثقة التي يُبديها اليوم الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان في الموارد البشرية والعلمية والمالية، إضافة إلى القاعدة الصناعية والمعدنية والطبيعية المتوافرة. كما أن شركاءنا في الشرق، تتقدّمهم الصين، أعلنوا بالفعل قبل القول إيمانهم بجدوى الخطط، ودخلوا منذ خمسة عشر عاماً في مشاريعنا الكبرى في كافة مناطق المملكة؛ فقامت مدن صناعية جديدة في جيزان ورابغ، وتمت توسعة المدن القائمة، ومشاركة تأسيسيّة للمشاريع المستقبلية في نيوم والقدية. وتوافقوا معنا أيضاً على مواءمة الرؤى والمشاريع، الآنية والمستقبلية، كدرب الحرير، والطوق البحري، وحماية أمن المنطقة والممرات البحرية، والتعاون في مكافحة الإرهاب والتطرف.
من الفعاليات الترفيهية.
… والغرب
وحتى لا نظلم الغرب، فالعديد من الشركات الأميركية والأوروبية والأوسترالية شاركت من قبل، وتشارك اليوم باستثمارات ملياريّة، في قطاع المقاولات والصناعة والتعدين والسياحة والترفية، متحدية بذلك تقارير القنوات والصحف والمراكز البحثية والمنظمات الحقوقية المسيّسة.
أما تلك التي تردّدت، كما فعلت من قبل، استجابة لضغوط سياسية وإعلامية، فقد خسرت الرهان، وتسعى اليوم، سراً وعلناً، للعودة إلى سوق أكثر الاقتصادات نمواً في مجموعة العشرين، والأقلّ تأثراً بالتقلّبات السياسيّة والصحيّة والصراعات الدوليّة.
والتعاون العسكري والأمني والمالي مع الغرب لم ولن يتوقف. ونتائج زيارة وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، أخيراً لبريطانيا، والاتفاق الاستراتيجيّ الشامل على التعاون في مجال التطوير والتدريب والتسليح، وأمن المنطقة؛ والصفقات الأخيرة مع أسبانيا في مجال التصنيع والتوطين والتطوير للسفن العسكرية، دليل بعد آخر على المنحى الجديد والمتطور لطبيعة العلاقات الدفاعيّة.
الثابت والمتحول
أما محاولة ربط خطط تجاوز عمرها نصف قرن، وحراك مكثف وفق رؤية بدأت من سبعة أعوام، بحادثة خاشقجي، قبل أربعة أعوام، والتي عوقب المتورطين فيها، وقضايا، كحقوق مجتمع الميم، لم تظهر على السطح بهذه التطرف إلا مع إدارة أميركية جديدة قبل عامين، فهو استخفاف بعقل الجمهور، وتجاهل لتراتبية الأحداث ومنطق الأشياء.
ما تريده السعودية معلن منذ أول خطة خمسيّة، ومفصّل منذ إعلان الرؤية 2030، وهو التحول الوطني عن الاعتماد على النفط باعتباره المورد الأساسي للدخل القومي، وتنويع الاقتصاد ليستوعب تقلّبات الأسواق في مختلف المجالات، خاصّة في سوق الطاقة.
من القمة العربية الصينية في المملكة.
جديد الشباب
الجديد في الأمر أن القيادات الشابة لا تقبل الانتظار خمسة وأربعين عاما أخرى من الخطط الخمسيّة، وتنوي البناء على ما تمّ تحقيقه، خاصّة في مجال التنمية البشرية، لتحرق المسافات، ولتتخطّى الحواجز التي تحول دون الوصول إلى الأهداف المرسومة خلال عقد واحد، ثمّ الاستمرار بعد ذلك على طريق الرؤية السّريعة، لتسابق الأمم في عمارة الأرض، وتأمين مستقبل الأجيال المقبلة.
ولأن الوقت أغلى العملات، فقد تقرّر أن يبدأ العمل على كلّ المسارات، في وقت واحد. ولأن الحاضر يسابق المستقبل، فقد اتّحدت الطاقات كلها لتنفيذ المبادرات والمشاريع بالجملة. ولأننا نريد لجزيرتنا العربية أن تتحوّل إلى معبر بين القارات، وملتقى للحضارات، ومنارة لرؤية العالم المستقبلية، كان كلّ هذا التشاور مع قيادات العالم في كلّ التخصصات وعلى كلّ المستويات. فكلّ فعالية، وكلّ منتدى، وكل تواصل، لها وله أجندة مفصّلة، وأهداف واضحة، وآلية نشطة، ضمن منظومة عمل شاملة، متكاملة.
وهذه القمم الدولية والمجالس التعاونية، وتلك المبادرات واللجان التنفيذية، تهدف إلى تحقيق المخطط الشامل ليس للمملكة العربية السعودية فحسب، ولا لمنطقة الشرق الأوسط فقط، ولكن لأمة تعبت من التحسّر على ما فات، وملّت من اللحاق بغيرها، وآن الأوان أن تقود قاطرة الأمم نحو مستقبل أكثر خضرة، ونقاء، وسلماً، وحضارة!
استاذ في جامعة الفيصل
@kbatarfi