في 10 كانون الأول (ديسمبر) 2019، بعد أربعة وخمسين يوماً من الاحتجاجات الشعبية، هاجم "حزب الله" الخيمة التي أقيمت في وسط بيروت في الأيام الأولى لثورة أكتوبر، واتهم المنظمين، وأنا أحدهم، بالعمل للتطبيع والدعوة للسلام مع إسرائيل.
المحاضرة التي كانت مقررة لذلك اليوم بعنوان "الحياد كخيار استراتيجي للبنان" مثل المحاضرات الخمس والأربعين التي سبقتها، لم تكن سوى تحفيز على بناء الوطن والمساءلة والسيادة، وهي مفاهيم لم ترغب الطبقة السياسية اللبنانية التي تختبئ وراء سلاح "حزب الله" بتنفيذها.
عندما وقع الهجوم، كنت مشغولاً بتدريس أحد فصولي في الجامعة الأميركية في بيروت، وبمجرد وصولي إلى الخيمة، لاحظت أن رفاقي كانوا محبطين ويتحضرون لحزم الخيمة خوفاً من موجة اعتداء جديدة. وفعلاً، بمجرد إشعالنا للأنوار في الخيمة، أحاطنا على الفور عشرات المهاجمين الذين كانوا مصمّمين على حرقها وترديد اسمي متهمين إيّاي بأنني صهيوني، وهو للأسف، دعوة للقتل في الثقافة التي نعيشها.
في ثوانٍ قليلة، ظهر صديقي لقمان سليم ومعه نحو اثنا عشر من أصدقائه الشجعان إلى جوارنا لدعمنا ضد ”المرتزقة" الذين يظهرون دعم القضية الفلسطينية، بينما في الواقع يدعمون بلا خجل الديكتاتور السوري بشار الأسد، ويؤيّدون هجمات "حزب الله" على الأبرياء في سوريا، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون.
موقف لقمان لم يكن مفاجئاً، ولم تكن كلماته أمراً غير متوقع من رجل كرّس حياته ومهنته لتعزيز قيم العدالة والتعددية والفكر النقدي، وهي عناصر يخشاها "حزب الله" ومن خلفه الحاكمون في طهران.
المواجهة الشجاعة التي أخذناها مع لقمان لم تكن للأسف كافية لإنقاذ الخيمة، فوزيرة الداخلية في ذلك الوقت، رأت أن من المناسب البدء بتفكيك المكان، وبالتالي أفسحت المجال، ابتداءً من يومها، لـ"حزب الله" وأزلامه المتسللين إلى الثورة من التفكيك المنهجي للاعتصام في وسط بيروت.
بعد مرور ما يقرب من عام على "الهجوم" وفي 3 فبراير 2022، اغتيل صديقي الشجاع لقمان في جنوب لبنان على بعد أميال قليلة من إحدى أكبر قواعد قوات حفظ السلام الأممية، على يد فرقة اغتيال في منطقة يسيطر "حزب الله" على أمنها ومعظم سكانها. يومها أُسكت جسد لقمان بسبع رصاصات من مسدّس مزوّد بكاتم للصوت.
هذا العام وفي الذكرى الثانية لاغتياله، قرّرنا في مؤسسة لقمان سليم إعادة الخيمة التي نصبناها مقابل مرفأ بيروت لتذكير الجميع بأن القاتل واحد، ولتذكير اللبنانيين عموماً، وبعض أعضاء المجتمع الدولي، بما في ذلك المنسّقة الخاصة للأمين العام للبنان، جوانا ورونيكا، بأن الرهان على "هدوء" القاتل و"عقلنته" ليس فقط جنوناً بل يعتبر عملاً فاحشاً.
خيمة لقمان ستحضر كما كان هو، عقل وذكاء وعيون حادة تلاحظ كل شيء، واحتفال بالحياة والفكر، وحاضنة لصناع الرأي وأولئك الذين يريدون ببساطة العيش في دولة طبيعية يحكمها القانون لا إصبع طاغية.
المشاركة في الخيمة هي انضمام إلى ذاكرتنا جميعاً، لنبقي على صورة لقمان وجميع ضحايا مرفأ بيروت، الذين نجا بعضهم ولا يزالون في حالة من النسيان العاطفي والجسدي، وكذلك لنذكر أولئك الذين ما يزال لديهم ذرة من الخوف في قلوبهم، بأن القتلة يستمرون بجريمتهم ضد الجميع، حتى الذين يرفضون المواجهة.
يمكن لبعض اللبنانيين أن يخشوا نصرة الدعوة إلى العدالة لأنها ستجعلهم وجهاً لوجه مع "وحش" يعيش على دماء الأبرياء، ولكن إذا أردنا أن نعيش بسلام ونزدهر، فلم يبق لنا خيار سوى أن نكون من عداد "شيعة لقمان" الذين لن ينتهي تفانيهم أبداً من أجل الحقيقة والعدالة.