محمد فحيلي
تفاوضنا برعاية عربية وأممية لإنهاء الحرب الأهلية، واليوم المشهدية ذاتها في محاولة لإنهاء الحرب الاقتصادية. الرابح الأكبر هو المكوّن السياسي المجرم والفاسد والفاشل، والخاسر الدائم في كل الحروب هو المواطن المستهلك صاحب الدخل المحدود.
بعد خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية قرّرت أحزاب لبنان، برعاية عربية، وقف الحرب. لن أخوض في تفاصيل آليّة إنهاء هذه الحرب ولكن المهم هو أن القوى السياسية فاوضت وتفاوضت لإنهاء الحرب تحت عنوان "العفو العام" – أي رغم كل الخسائر التي تسببوا بها للشعب اللبناني، يمنع محاكمة أي شخص ارتكب جريمة خلال هذه الحرب. ومات من مات قضاءً وقدراً! ومنطق ونهج "العفو العام" ما زال حياً في نفوس مكوّنات الطبقة السياسية عند كل مفترق طرق! يجب الإشارة إلى أن شروط إنهاء الحرب الأهلية جاء بمباركة عربية وشبه عالمية. واليوم وبعد ثلاثين عاماً من الفساد والهدر من قبل الأحزاب والقوى السياسية ذاتها، ورغم كل المآسي والخسارة التي تسببوا بها للشعب اللبناني، يريدون إنهاء و/أو حل هذه الأزمة باعتماد المنهجية ذاتها – "عفا الله عمّا مضى" – وليتحمّل المواطن اللبناني الخسارة. وليس بسر، الحديث عن توزيع الخسائر دائماً يتقدم على موضوع إقرار وتنفيذ أي إصلاح قد يمسّ بالمكاسب السياسية لأي من مكونات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة. وكأن التاريخ يعيد نفسه ولم تؤخذ العبر من أخطاء الماضي.
ولمن واكب مجريات الحرب الأهلية يتذكر من دون أي تردد أو شك عدد اتفاقات وقف النار، آلاف المرات توقفت وعادت واندلعت الحرب من دون أن يكون لدينا أي تفسير منطقي. أيضاً ليس عجباً أنه كان هناك مستفيدون في أوقات الحرب كما في أوقات السلم، وكأنه كان هناك اتفاق ضمني لوقف الحرب وإشعالها لإعطاء مساحة كافية ووافية لكي يستفيد الجميع. هذه الاضطرابات كانت نعمة تجار الحرب ونقمة المواطن اللبناني. المشهدية ذاتها تتكرّر اليوم مع الأحزاب والتكتلات السياسية الحاكمة في زمننا هذا، ولكن الحرب اقتصادية والسلاح الفتاك هو الدولار ورديف تجار الحرب هم تجار المال وكل واحد منهم يدّعي العفة والطهارة والفناء من أجل الحفاظ على لقمة عيش المواطن، وخلال الحرب كان كل منهم يريد الحفاظ على حياة المواطن!... "بس مات الوطن!".
في أيام الحرب كل واحد منا أصبح خبير أسلحة وذخيرة واستراتيجية القتال وحرب الشوارع، اليوم هناك محلل اقتصادي داخل كل كائن حيّ في لبنان، وخبير سوق صرف ومضارب في سوق القطع. في أيام الحرب كانت هناك شرقية وغربية، اليوم هناك مصرف لبنان وجمعية المصارف وصندوق النقد الدولي. كان الحديث آنذاك عن سلاح الطومسون والكلاشينكوف وغيره من الأسلحة الفردية والمدافع والرشاشات. اليوم عندنا نوع آخر من الأسلحة. عندنا في لبنان مجموعة من الأسلحة التي هي صناعة محلية وُلدت من رحم معاناة المواطن. عندنا، إضافة إلى الـ"لولار" و"الدولار الفريش" ثلاثة متحوّرات من الدولار عجزت الخزينة الأميركية عن فهمها:
I. الدولار السياسي الذي تتحكم به مكونات السلطة السياسية وأدواتها وتوظفه خدمة لمصالحها وتأتي دائماً على حساب المواطن.
II. دولار المضارب والمحتكر الذي تتحكم به السوق السوداء من خلال تطبيقات النهب والتضليل (تطبيقات واتس أب).
III. الدولار الاقتصادي الذي يؤثر على لقمة عيشنا، وهو ما يعتمده التجار لتسعير سلعهم وخدماتهم، وهذا أمر طبيعي ويتناغم مع طبيعة أداء المؤسسات التي تبغي الربحية.
وكل واحد من هذه المتحورات مرتبط بالآخر عضوياً، ويجري توظيف أو نشر كل منها وفق ما يتناغم مع مكاسب و/أو أهداف مكونات الطبقة السياسية.
الدولار السياسي (المحرك الأساسي له هو مكونات الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة). خيّم الاستقرار على حركة الدولار السياسي خلال فترة التحضير لانتخابات 2022 للتخفيف من نقمة الشعب اللبناني على السلطة السياسية لتعزيز حظوظها بالعودة بقوة إلى الندوة البرلمانية. أسهم مصرف لبنان، تلبية لرغبة الطبقة السياسية، من خلال التعميم الأساسي 161، بتحقيق هذا الهدف وجمّد التدخل عند الإعلان الرسمي عن نتائج الانتخابات. نتائج الانتخابات هيّجت مشاعر التغيريين ودفعت بالتقليديين المقتدرين إلى اللجوء إلى خطوات "عقابية" وكان الارتفاع المشبوه والملوّث سياسياً صباح اليوم الذي أقفل فيه ملفّ انتخابات الـ2022. وحتى اليوم ودائماً يشهد لبنان حركة مشبوهة بالدولار السياسي لتسجيل موقف سياسي معيّن كزرع فكرة أن "ما أنتجته الانتخابات البرلمانية في 2022 لا يبشّر بالاستقرار". وفي سياق اكتمال تكوين السلطة التشريعية، كلما ارتفع الحديث عن عدم انتخاب النائب نبيه مصطفى بري رئيساً لمجلس النواب، ارتفع سعر صرف الدولار، إلى أن بات محسوماً موقع رئيس مجلس النواب وتحوّلت الأنظار إلى نائب الرئيس، انطلق قطار التسويات برعاية النائب بري.
ارتاحت مكونات الطبقة السياسية لمجرى الأمور، فاتخذ قرار التهدئة الاقتصادية (وقف إطلاق نار جديد) وطلب من مصرف لبنان تثبيت قرار "وقف إطلاق النار" على الأرض بإعادة تفعيل وتكثيف العمل بأحكام التعميم الأساسي 161، وهذا ما حصل من خلال إصدار بيانين لسعادة حاكم مصرف لبنان طلب من خلالهما من المصارف التجارية قبول طلبات شراء الدولار عبر منصّة صيرفة وتمديد ساعات العمل لمدة ثلاثة أيام، وأيضاً طلب من المواطنين التوجّه إلى مصارفهم للأمر ذاته.
دولار المحتكر والمضارب والمحرك الأساسي هو تجار الأوراق النقدية وهؤلاء ليسوا إلا أدوات للبيع والشراء عند الحاجة. هذا الدولار هو نعمة ونقمة والاستفادة تأتي من خلال التقلبات، وأكبر عدوّ له هو الاستقرار في سعر الصرف. يحرّك هذا الدولار تجار المال. وما دام هناك تقلبات، هناك مستفيدون من الارتفاع والهبوط في سعر الصرف. يوجد في لبنان قانون تنظيم مهنة الصيرفة الذي يلزم:
• الحصول على ترخيص من مصرف لبنان لمن يريد ممارسة مهنة الصيرفة.
• والتصريح الدوري للجنة الرقابة على المصارف عن كل العمليات.
ولم تكن هذه السوق "سوداء" في أي وقت من الأوقات، لأنها لطالما كانت سوقاً منظمة وتحت الرقابة المحكمة. اليوم أصبحت سوداء لأن:
1. هوية المتداولين غير معروفة.
2. أصبحت أوراق نقدية مقابل أوراق نقدية من دون أي سجل تدقيق (Audit trail).
3. كل من يملك الأوراق النقدية القذرة أصبح صرافاً من دون أي ترخيص و/أو إذن بمزاولة المهنة.
4. ويحكمها تطبيق "واتس اب" التضليلي، وهذه هي حدود مهنية هذه السوق.
5. ولا أحد يصرّح للسلطات الرقابية، ولا حسيب ولا رقيب.
الدولار الاقتصادي والمحرك الأساسي له هو العوامل الاقتصادية. هو الذي يشير إلى غلاء الأسعار، ويشير إلى غلاء المعيشة والقدرة الشرائية لدخل الفرد. هو الدولار الحقيقي ويتغذى بفعل الاضطرابات والتقلبات في سعر الصرف ويختفي نهائياً إذا تحقق الاستقرار في سعر الصرف. ويجب لفت النظر إلى أن مصرف لبنان لم ولن يضع هدف "الاستقرار في سعر الصرف" في أي وقت من الأوقات وكان التركيز دائماً على خفض سعر صرف الدولار رغم الكلفة العالية لحماية الليرة. وللحفاظ على نسبة أرباحهم للاستمرار في تأمين السلع الغذائية للمستهلك، ولأن التسعير يجب أن يكون بالليرة اللبنانية، يتم اختيار أعلى سعر صرف للدولار لاعتماده لتسعير السلع والخدمات الجاهزة للبيع. كان الدولار الاقتصادي 33000 عندما كانت كل الدولارات تتأرجح بين الـ20000 والـ25000 ليرة للدولار الواحد؛ واليوم هو على عتبة الـ40000 ليرة.
في الخلاصة، لبنان اليوم يستعد لإتمام تكوين السلطة الشرعية ومن الواضح أن الصوت التفضيلي في هذا الاستحقاق هو للتسويات والدافع هو المكاسب السياسية والكل منخرط ويمتثل لقواعد الاشتباك. يعني بعدنا محلنا!
خبير المخاطر المصرفية وباحث في الاقتصاد