في الوقت الذي نحتفل فيه بتألّق السعودية نتيجة إنجازها الأخير في مجال علوم الفضاء، حاول البعض من المنتقدين على وسائل التواصل الاجتماعي التقليل من شأن هذه الخطوة، معتبرين أنها أتت نتيجة إمكانات بلادنا الاقتصادية فحسب. كذلك أشار هؤلاء إلى أن هذا الإنجاز المُتمثّل بإرسال رائدي الفضاء السعوديين ريانة برناوي وعلي القرني إلى محطة الفضاء الدولية تمّ "شراؤه" لا تحقيقه. ولا تُقلّل مثل هذه الروايات من عمل المملكة وابتكاراتها وروحها الريادية فحسب، بل تتغافل أيضاً عن الاعتراف بالطرق المتعدّدة التي تُستخدم بها موارد السعودية من أجل تحقيق تقدّم مشترك، ودعم القضايا الإنسانية.
بالطبع، تُعتبر القوّة المالية للسعودية حقيقةً ولا يُمكن إنكارها، إلّا أنّ السؤال الرئيسيّ الذي يجب طرحه لا يرتبط بقدرتها على الإنفاق، بل بكيفية توجيهها لهذه الموارد واختيارنا لوجهاتها. فكون بلد ما غنياً، فهذا لا يُعتبر مؤشّراً إلى مدى نجاحه، حيث توجد أمثلة عدّة في المنطقة، رأينا من خلالها بُلداناً كانت فاحشة الثراء في الماضي إلا أنها اليوم تعاني من الفوضى، ويسود انعدام الاستقرار فيها، وتفتقر إلى المرافق الأساسية، في حين أنّ من الواضح أن من ينظر إلى تعامل السعودية مع ثروتها يرَ منحًى إيجابياً، حيث توظّف المملكة مواردها في عدد كبير من المبادرات التحويلية على الصعيدين المحليّ والعالمي.
فلنبدأ بإلقاء نظرة على الجهود الإنسانية الجديرة بالثناء التي تبذلها السعودية. فقد قادت الرياض أخيراً عمليّة إجلاء للمدنيين المحاصرين نتيجة الاضطرابات في السودان، فأنقذت بذلك عدداً لا يحصى من الأبرياء. وتذهب مساعداتنا أبعد من الاستجابة الفورية للأزمات، إذ ما زلنا نُعتبر إحدى أكبر الجهات المانحة في مجال المساعدات العالمية، حيث ندعم باستمرار الدول الأكثر فقرًا، ونساعدها على رفع مستويات معيشتها وتعزيز التنمية المستدامة عبر برامج مثل تلك التي يُطلقها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية والصندوق السعودي للتنمية. واللافت أنّ عدداً لا بأس به من الذين انتقدوا صرف المملكة على مشروعها الفضائي يأتون من بلدان لطالما كانت من أول المستفيدين من برامج المساعدات والمعونات السعودية.
بالإضافة إلى ذلك، أنقذت تدخّلاتنا الاقتصادية عددًا من الاقتصادات التي كانت على وشك الانهيار. وتُظهر هذه الإجراءات التزامنا بالاستقرار العالميّ الذي يذهب أبعد من الحسابات المالية البحت، ويؤكّد التزامنا بالتقدّم المتبادل والازدهار المشترك.
أمّا داخليًا، فتشكّل المشاريع الضخمة التي تُنفّذها المملكة، من نيوم إلى الدرعية ومشروع البحر الأحمر، كما مبادرتَي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر خير دليل على التزامنا بتنويع الاقتصاد وتحقيق الاستدامة. ولا تَعِدُ هذه المشاريع بإحداث ثورة في اقتصادنا المحليّ فحسب، بل بالمساهمة في الابتكار العالمي والتوازن البيئي أيضًا.
يتغاضى مُنتقدونا بسهولة عن هذه الجوانب، ويختارون التركيز على إنفاقنا على استكشاف الفضاء. ومع ذلك، فإن الاستثمار في العلوم والاستكشاف ليس بتبذير، بل هو مسعى يستحق الثناء. ويعكس تقدّمنا في مجال علوم الفضاء طموحنا الأوسع المُتمثّل بالتحول إلى جهة رائدة في مجال الابتكار التكنولوجي والمساهمة في توصّل البشرية إلى فهم مشترك للكون وإلهام أجيال المستقبل.
يشكّك المنتقدون في السبب وراء مشاريعنا الفضائية، معتبرين أنها مجرّد عروض لثروتنا. ويبدو أن حقيقة ارتباط استكشاف الفضاء بالتقدم البشري بقدر ارتباطه بتحقيق إنجاز وطني قد فاتتهم. فإن هذا النوع من الاستكشاف يشجع على الفضول العلمي، ويعزّز الابتكار التكنولوجي، ويدعم التعاون العالمي؛ وكلّها عناصر أساسية عند تعاملنا مع تحدّيات عصرنا الملحّة، من التغيّر المناخي إلى ندرة الموارد.
وتُعدّ مراجعة تجارب الدول الأخرى التي استثمرت بشكل كبير في مجال استكشاف الفضاء خطوةً مفيدةً، إذ تسمح لنا بتحديد نمط واضح للعائدات واسعة النطاق، تمتدّ إلى ما هو أبعد من المسائل النقديّة.
فلنأخذ مثلًا الولايات المتحدة التي كانت إدارتها الوطنية للملاحة الجوية والفضاء رائدةً في مجال استكشاف الفضاء لعقود. وقد حصد الاستثمار في بعثات أبولو إلى القمر أرباحًا كبيرةً، وذلك على الرّغم من اعتباره باهظ التكلفة في البداية. وقد شقّت الابتكارات التكنولوجيّة الناتجة عن هذه المشاريع، مثل الألواح الشمسية وفحوصات التصوير المقطعيّ المحوسب، وحتى الأطعمة المجفّفة بالتجميد، طريقها إلى حياتنا اليومية، مفيدةً بذلك البشرية جمعاء. ويُعتبر هذا هو العائد الماديّ والملموس على الاستثمار الذي حقّقه استكشاف الفضاء.
لكن أثر كلّ ذلك يتجاوز المقاييس المالية والمنتجات المادية. فقد أثار إطلاق الاتحاد السوفياتي للقمر الاصطناعي "سبوتنيك"، وسباق الوصول إلى الفضاء الذي لحقه اهتمام الناس بمجال العلوم في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ممّا أدى إلى نمو غير مسبوق في الاهتمام بمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات. وساعدت زيادة الاهتمام هذه بدفع عجلة الابتكار التكنولوجي والنمو الاقتصادي إلى الأمام على مدة العقود اللاحقة.
بالإضافة إلى ذلك، لا يجب الاستهانة بالتأثير الملهم لعمليات استكشاف الفضاء. فقد رأينا صورة أول إنسان وطأت قدماه على سطح القمر، والصور المذهلة للمجرات والسدم البعيدة، التي التقطها تلسكوب هابل الفضائي، والإنجازات التي حقّقتها مركبات استكشاف المريخ، أنها كلّها أمور نشّطت مُخيّلة عدد لا يحصى من الشباب، فألهمتهم لاختيار مهن في مجال العلوم وساهمت في تعزيز ثقافة الابتكار والاستكشاف.
وبتنا نشهد بالفعل في السعودية موجةً مماثلةً من الاهتمام، إذ عزّز استثمارنا في مجال استكشاف الفضاء اهتمام شبابنا في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، في حين يشكّل رواد الفضاء السعوديون نماذج يحتذى بها، ويلهمون شبابنا لكي تكون أحلامهم كبيرةً ولكي يسعوا للوصول إلى النجوم.
تشكّل رحلة رائدي الفضاء السعوديين إلى المحطة الفضائية أكثر من مجرّد إنجاز حماسي لبلدنا، إذ تُعتبر تجسيدًا لأهدافنا الأوسع. إنها خير دليل على أن السعودية تستخدم مواردها لا بهدف تطوير نفسها فحسب، بل من أجل أن يكون لها مساهمة إيجابية تُفيد العالم بأسره. وبالتالي، يجب أن تتمّ الإشادة بهذا الإنجاز بدل التقليل من أهميّته.