النهار

قمم السعودية
علم السعودية.
A+   A-
ماذا يجري في بلادكم؟ ماذا تفعلون أيها السعوديون، وماذا تريدون؟ سألني الإعلامي البريطاني. واستطرد: كل يوم نشهد قمة بعد أخرى، ومؤتمراً بعد آخر، ومعرضاً كبيراً بعد معرض. وأحياناً تعقد هذه المناسبات في آن واحد، في أكثر من مدينة، أو في نفس المدينة.
 
لا أتصوّر أنها مصادفة، أو حماسة غير منسّقة. فما الهدف؟ هل هي استراتجية انفتاح دولي؟ أنشطة جذب سياحية؟ ديبلوماسية ناعمة؟ أم نشاط مشترك لكافة الأجهزة الحكومية والخاصة لتغيير صورة بلادكم، ولفت أعين العالم الى رؤيتها الجديدة؟
 
الأسئلة المحيّرة
والأهم: هل هو حراك مؤقت لتحقيق غايات محدّدة، يتوقف بعدها أو يتباطأ بتحقيقها؟ أم مشروع طويل الأمد لتحقيق مكانة دولية رائدة، ولتحويل الرياض خاصة، والمدن الكبرى عامة، الى منصّات مفتوحة، دائمة، للمؤتمرات والندوات وورش العمل والبحث العلمي؟ وماذا يبقى لغيركم من بلدان المنطقة، وحتى للعواصم الدولية، في هذه الحالة؟ وهل سيتقبّلون هذه المنافسة غير المتكافئة، الحكومية أو تلك المدعومة من الدولة، بدون تحدٍّ واعتراض ومنافسة حادة؟
 
أسئلة تحيّر الكثير من المتابعين والمراقبين للشأن السعودي. سمعتها من أكثر من زائر لمواسم السياحة والتسوّق في المناطق السعودية، والمشاركين في المعارض الدولية، وحضور الحفلات والمهرجانات الفنية والثقافية، وصولاً الى أعضاء المؤتمرات والاجتماعات السياسية والاقتصادية الصحية والتعليمية والدينية والرياضية. فكمّ الأحداث المتوالية في السعودية والأنشطة الداخلية والخارجية مدهش بكل المقاييس. فلم يشهد تاريخ البلاد والمنطقة كل هذا الكمّ الحركي على كل المستويات، وفي كل المجالات، حتى باتت متابعتها فقط، دون المشاركة فيها، تتطلب جهداً غير مسبوق من أجهزة الإعلام والبعثات الديبلوماسية والمنظمات الأممية.
 
الحراك الدولي
فخلال هذا العام فقط، شهدت وكتبت وعلقت على معرض الدفاع العالمي في الرياض الذي شارك فيه 600 عارض من 42 دولة، وموسم الرياض 2022، وقمة جدة للأمن والتنمية، بحضور الرئيس الأميركي جو بايدن وزعماء دول الخليج وعدد من القادة العرب، وقمم رمضان مع عدد من قادة المنطقة والعالم الإسلامي وأفريقيا، وقمة الأديان لمجموعة قمة العشرين، ومنتدى بناء الجسور بين الشرق والغرب، ومبادرة سلاسل الإمدادات العالمية، والمؤتمر الدولي للإنترنت وقمة الأمن السيبراني، ومبادرة الاستثمار ”دافوس الصحراء“، والمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، بمشاركة 1000 إعلامي و200 شركة ومنظمة عالمية.
 
ثم هناك زيارات عدد من القيادات الدولية، من بينهم رئيس وزراء بريطانيا، ورئيس وزراء فرنسا، والمستشار الألماني، ورئيس وزراء باكستان، وزيارات ولي العهد لمصر والاردن وتركيا واليونان وفرنسا. والزيارات المرتقبة للهند والفلبين وتايلندا، وكذلك أندونيسيا لحضور قمة العشرين، والمشاركة الوزارية في معرض ومؤتمر أبو ظبي الدولي للبترول.
 
ولعل أهم هذه الزيارات والقمم، الزيارة المرتقبة لرئيس الصين للمشاركة في ثلاث قمم، سعودية وخليجية وعربية. والقمة العربية في الجزائر، وقمة المناخ، وقمّتا مبادرة السعودية الخضراء، ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، في شرم الشيخ، والقمة العربية الافريقية في الرياض.
 
المبادرات الإقليمية
يضاف الى ذلك تدشين مبادرات اقتصادية وتنموية إعلامية إقليمية، تتضمّن إنشاء ست شركات استثمارية بقيمة 32 مليار دولار، في كل من من مصر والعراق والاردن والسودان والبحرين وعمان. ومشروع بناء شبكة كهربائية بين السعودية ومصر واليونان، وكابل بيانات بحري سعودي يوناني، ومشاركة العراق في الشبكة الكهربائية وشبكة السكة الحديدية، لدول مجلس التعاون الخليجي.
 
كل هذه المتابعات، وأعتبر نفسي بحكم المقصّر، لأن تغطيتي لم تشمل مؤتمر مبادرة الاستثمار "دافوس الصحراء" ومعرض الرياض الدولي للكتاب، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة، ومهرجان ”شتاء الطنطورة“ في العلا، وسباقات ”فورمولا وان“ بحلبة جدة، و“فورمولا آي“ للسيارات الكهربائية في الدرعية، وسباق ”رالي حائل حول المملكة"، وسباق سيارات ”اكستريم اي“ لسيارات الدفع الرباعي الكهربائية. وكذلك السوبر الإيطالي والسوبر الاسباني لأبطال كرة القدم، وبطولات الغولف والملاكمة والمصارعة العالمية.
 
مؤتمرات واستثمارات
وفي المجالات السياسية والنفطية والعلمية والسياحية، كان من واجبي رصد اجتماعات منظمة التعاون الإسلامي ورابطة العالم الإسلامي في جدة وروما وبالي، واجتماعات أوبك بلاس التي ترأستها السعودية مطلع كل شهر، وتلك المؤتمرات المتخصّصة في الطاقة التقليدية والخضراء والذكاء الصناعي والتقنية والخدمات الصحية والسياحة.
 
وهناك الشركات والصناديق المحلية لتنمية المناطق، كمشروع السودة السياحي في عسير، ووسط جدة، والفيصلية بين جدة ومكة، وحديقة الملك سلمان في الرياض، والطائف الجديدة، وإعادة بناء وتطوير 11 مدينة، وإنشاء مناطق لوجستية حرة مرتبطة بالموانئ والمطارات الدولية، واعلان إنشاء مركز إقليمي للمصانع الصينية في السعودية لخدمة الأسواق الإقليمية والدولية.
 
السعودية أولاً!
إلا أنني، كحال زميلي البريطاني، ليس لدي القدرة والوقت الكافي لملاحقة كل هذه الأحداث فضلاً عن حضورها والمشاركة فيها. وبقدر ما فوجئ الرجل بهذا الكم الهائل من الأنشطة اليومية الإقليمية والدولية، إضافة الى المحلية، فوجئ الكثير من المتابعين والإعلاميين، وتطلب ذلك منهم مضاعفة الجهد والعاملين ومساحة البث والنشر.
 
إلا أن وجودنا، كسعوديين، في قلب الحدث، وقربنا من مراكز صناعة القرار، يضعنا في موقع أقدر على تفسير وتوضيح ما يجري. فالمملكة العربية السعودية تمر منذ سنوات بحراك هائل على كل المستويات لتجديد وتحديث كل مألوف، وتطوير الأنظمة والخطط لتحقيق أهداف رؤية شاملة لمستقبل البلاد. تطلب ذلك إعادة النظر في تركيبة المجتمع والحكم، والقطاعين العام والخاص، وإعادة صياغة السياسات العامة المحلية والدولية. وترتيب الشراكات والتحالفات الإقليمية والعالمية. فالمبدأ الجديد هو "السعودية أولاً، الأشقاء ثانياً، والأصدقاء ثالثاً".
 
تعويض تأخير أربعة عقود
وبناء دولة قوية، قادرة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، وتعهّداتها تجاه العالم من حولها، ضروري وحيوي ويخدم مصالح الجميع. وهذا يتطلب تسريع عجلة التنمية، وخفض الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وتدريع الأمن الوطني والقومي، والحفاظ على توازن سوق الطاقة، والمساهمة مع المجتمع الأممي في حفظ الأمن والسلام الكوني.
 
ولأننا تأخرنا أربعين عاماً في تحقيق ما وصلت إليه الصين والهند وسنغافورة في تلك الفترة، فقد سعت القيادة الشابة الى تسريع الخطى وتكثيف الجهد وتسخير كل الطاقات، المدربة والمتعلمة، لأبناء وبنات الوطن، للعمل على كل الجبهات في وقت واحد.
 
وهكذا تحوّلت السعودية الى ورشة عمل لا تهدأ على مسار الساعة. فهناك انفتاح اجتماعي، تحول تعليمي، خدمات رقمية، وهيكلة حكومية متقدّمة. يواكب ذلك تركيبة علاقات دولية متعدّدة الطبقات: سياسية، تجارية، سياحية، بحثية، تعليمية، ثقافية، رياضية، الخ.
 
مناسبة اللحظة
ونحن اليوم أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرّر. فقد توافرت الموارد البشرية الشابة المؤهلة، والموارد المالية نتيجة لارتفاع أسعار النفط والضرائب، وزيادة مبيعات المنتجات الصناعية والزراعية، وارتفاع دخل السياحة الدينية والاقتصادية والثقافية والترفيهية استجابة لاستراتجية الانفتاح وتطوير الخدمات.
 
ولعل الأهم والمستجد، ارتفاع أداء الصناديق السيادية للاستثمار الدولي والداخلي، وتحقيقها أرباحاً قياسية بلغت مئات مليارات الدولارات خلال السنوات القليلة الماضية. فلم تعد المملكة تستثمر في السندات الحكومية الأميركية فحسب، بل وسّعت دائرة نشاطها لتغطي كافة الحقول المجدية والمربحة التي تخدم أهداف الرؤية، كصناعة السيارات الكهربائية، والهيدروجين الأخضر، والأمونيا الزرقاء، والسياحة البحرية، والمنتجعات الترفيهية، والطاقة الشمسية، والبنى التحتية، والصناعات الإلكترونية والعسكرية والفضائية.
 
توافقية وطنية
والأهم من ذلك، توافق الإرادة بين القيادة والشعب، وبين المنظومة الحكومية والخاصة. فالجميع يرى أن رؤية السعودية 2030 تمثل خريطة طريق مصيرية، ومهما كانت العقبات التي تواجهها، ومهما كلفت من جهد ومال، ومهما كانت التضحيات، فعلينا أن نواصل المضيّ عليها حتى تحقيقها. فالمراكب التي نقلتنا الى القرن الواحد والعشرين تغرق، وليس أمامنا إلا المضيّ بدونها، وتبنّي أسلوب حياة وعمل يختلف عمّا تبنّته القوافل السابقة، وعدم القبول بأنصاف الحلول.
 
لقد دخلنا السباق بالفعل، وليس بيدنا خيار إلا الفوز. وهذا وحده يشرح كل ما يجري، وكل ما سيجري، في الميل الأول، على طريق الألف ميل.
 
أستاذ بجامعة الفيصل
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium