نزار يونس: هل نحن شعب، ولدينا هوية وطنية خاصة بنا؟
"الطائف"، ذلك المقتول على أيدي رعاته وأولياء أمره، لا يزال على قيد الحياة يُصارع للبقاء، حيث الوظيفة التي اختيرت له، والمهمّة التي استولده أهل الوفاق في الطائف لأجلها، ويرفض النزول إلى حيث الموت الأخير، والاستسلام للتراب والنسيان.
كتب فيه الكثير مدحاً أو ذماً، مقالات تشريحية وكتب وشهادات، لكن كتاب "الميثاق أو الانفكاك - الطائف ذلك المجهول" (دار سائر المشرق) لمؤلفه الدكتور نزار يونس أعاد النقاش حول "الطائف" المنسي والمهمل، الذي قضى على روحيّته، وغيّبه من تولّى بغفلة أمر تطبيقه، إرضاء لمصالحه الطائفية والسياسية، وحماية لمشروعه الخاصّ الداخلي والإقليمي، فدفع اللبنانيين ثمناً باهظاً في مالهم واستقرارهم ومستقبل أولادهم، وصار وطن الطموحات مثالاً للفشل والفساد وتحلّل الحكم والسّلطة وسيادة الطائفة على الدولة، والمذهب على الدستور، والشعبوية على الحكمة.
يوحي الدكتور يونس في مؤلفه بأن معارك "الطائف" لا تنتهي، سيُحارِب وسَيُحارَب، لأن التكليف المنوط به، عصيّ على معدة الموروث التاريخي لبلاد تتنفس طائفيّة، وتأكل مذهبية، وتشرب إثنية، وتعيد اجترار مآسيها كلما سنح لها الظرف السياسيّ بذلك.
التكليف المعطى للطائف - وفق يونس - يحمل شرعية وقدسية دستورية وقانونية، ليس لأنّه أقرّ في المجلس النيابي فحسب، أو ارتضت به دول كبرى، أو جارة ذات مصلحة، بل لأنه ميثاق تاريخيّ وطنيّ، أقرّه المتقاتلون بالحديد، والمتناحرون بالنار، والمختلفون على جنس الوطن؛ ولأنه أوقف الحرب، وأعاد اللبنانيين إلى كنف الدولة، والحوار داخلها لا على خطوط التماس، ولأنه مشروع إنهاء "قميص عثمان" الخوف والحرمان، وهي المقولة التي تستر حملة السلاح خلفها، لفرض واقع دويلاتهم الآمنة في الآحادية الطائفية، بديلاً للدولة المُطَمئِنة في التعدّدية.
تعثر بين فصول الكتاب على فلسفة روح الميثاق كما "أغرم" بها الكاتب. هو بنظره معادلة بناء الدولة لا السلطة، ومعادلة الوحدة بالشراكة لا بالطغيان. الطائف "أوقف العدّ" وأحلّ الاطمئنان إلى اللبناني الآخر مهما كثر أو قلّ عديده، وأرسى هوية عربية للبنان واضحة الانتماء، والالتزام بالقضايا المشتركة، من دون خسارة موقعه كمفتاح للشرق لدى الغرب، وميناء للغرب لدى الشرق.
ذهبية يونس في الميثاق أنّه دعا لبناء الدولة المدنيّة، وأفتى بالتدرّج في إلغاء الطائفية السياسية، فيما يعتبر أن ميثاق الطائف مقاومة سياسية، دستورية وقانونية، والأهمّ أنه مقاومة فكرية وثقافية لتحرير اللبناني المُعَلَّق بأحقاد الحروب، والمشحون بعصبيّات تتغذّى من تفشّي الأصوليّات الدينيّة والمذهبيّة التاريخيّة في الإقليم.
للطائف همّ واحد هو النظام وتطويره، وجعله قابلاً للحياة بين كواسر السياسة اللبنانية وأمرائها، لكنّه تعرّض للإهمال ونسي. هذه هي حال اللبنانيين اليوم معه، فهم مكبّلون ومأسورون بنظام طائفيّ وتبعيّ، يُكرّر مآسيهم، ويزيد إفقارهم وتشرّدهم، لكنّهم ينسون أنّ في خزائنهم، وبين وثائقهم، اتفاق تاريخيّ يمكنهم - لو خلصت نواياهم، وأحسنوا التطبيق - أن يسترجعوا الدولة المنهكة بالطائفية والفساد، ويعيدوا إنتاج وطن على قياس طموحاتهم وأحلامهم.
في ندوة جمعت نوابا جدداً، ووزراء حاليين وسابقين وقادة رأي، نظمتها الحركة الثقافية – إنطلياس حول الكتاب، ناقش المجتمعون "الطائف" وكيفية تطبيقه.
افتتح مدير الندوة الدكتور علي مراد النقاش مؤكّداً أن "اتفاق الطائف تعرّض لظلم"، وهو "رسم للّبنانيين خريطة طريق"، لافتاً إلى "أنّ النظام الطائفي هو مرحلة انتقالية، وأن الغاء الطائفية السياسية هو هدف وطنيّ، أقرّها الطائف، لكننا أهملناها".
النائب إلياس جرادة اعتبر "أن ما نعيشه اليوم يطرح أسئلة جديّة حول أيّ بلد نريد، وكيف نريده". وتساءل: "كيف نخوض غمار هذه الأسئلة دون العودة إلى وثيقة الوفاق الوطني المكتوبة منذ 30 عاماً، وهي نصٌ تأسيسي شُوِّه كثيراً".
في مداخلتها، أقرّت الباحثة زويا جريديني بأنّ "الدستور كرّس مفهوم حياد الدولة بالنسبة إلى الطوائف، ممّا يعني أن الدولة لا تتبنّى مذهباً رسميّاً، وهي على مسافة واحدة من جميع الطوائف والأديان".
أما كلمة المؤلف الدكتور نزار يونس فجاءت بمثابة جردة حساب مع القيّمين على الدولة والوطن، محمّلاً فسادهم وارتهانهم للخارج مسؤوليّة الانهيار.
يونس اعتبر أن "الكارثة التي حلّت بنا ليست حدثاً عابراً، لكونها حصيلة الأزمات المستفحلة منذ أكثر من قرن. والعلّة القاتلة كامنة في تجاهلنا الملتبس والغبيّ أن من المستحيلات إنشاء دولة عصرية في ظلّ نظام تمثيل طائفي مكرّس لخدمة مصالح منظومة المحاصصة الطائفية".
وقال يونس: "عام 1989، تنادى أشقاؤنا لمساعدتنا لإعداد وثيقة دستورية في مدينة الطائف لتعديل النظام السياسي القائم. أقرّ المؤتمرون "وثيقة الوفاق الوطني" التي رسمت الطريق لقيام دولة المواطنة اللاطائفية للعيش معاً، في جمهورية ديمقراطية عصريّة مؤهّلة لتكون منارة هذا الشرق وقاعدة نهضته. عام 1990 تبدّلت التوازنات الدولية بعد حرب الخليج ممّا أتاح القيام بانقلاب إجراميّ على الميثاق، فتولّى الوصيّ المنتدب بحذاقة لا مثيل لها تعطيل تنفيذه، وتشويه أهدافه، نصاً وروحاً."
يؤكد يونس "أن ميثاق الطائف، هو الإنجاز الأروع، والابتكار الأهمّ في حياتنا الوطنية منذ إعلان دولة لبنان الكبير"، ويسأل "هل نحن شعب ولنا هوية وطنية خاصّة بنا؟ هل نحن مواطنون في كيان وطنيّ تعدّديّ حضاريّ؟ وهل الانتماء إلى هويّتنا الوطنية يتقدّم على ما سواه من انتماءات داخل الحدود أو خارجها؟".
في ختام وجدانيّ أنهى يونس مناشداً: "آمل وأرجو قبل الرحيل أن تنطلق عاميّة جديدة لتطبيق ميثاق الطائف لإعادة الروح إلى الوطن الذي لا وطن لنا سواه".