دكتور محمود ادلبي - أستاذ جامعي
علاقة التعليم بالتنمية الاقتصادية هي علاقة تفاعلية، وأول من تناول أهمية التعليم وربطه بالاقتصاد هو مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث إذ يقول "إن اكتساب الفرد للمواهب أثناء تعليمه ودراسته هي تكلفة حقيقية، لكنها تعد بمثابة رأس مال ثابت ومتحقق في شخصه، وهي ثروة شخصية تعدّ بدورها جزءاً من ثروة المجتمع".
في عام 1960 أصبحت اقتصاديات التعليم باباً من أبواب علم الاقتصاد بعد الخطاب الذي ألقاه الاقتصادي شولتز في جامعة شيكاغو. وإذا كانت النظرية الاقتصادية التقليدية صنّفت عناصر الإنتاج ضمن 4 عناصر، فإن الاقتصاد الحديث يَعتبر المعرفة إحدى أهم عناصر الإنتاج. هذه المعرفة تتأتى من نتاج مسار من التعليم والتربية والثقافة والبحث العلمي، ليكون الرأسمال البشري هو أداة إنتاجها ومقياس لثروة المجتمع.
على مدار أكثر من ثلاث سنوات، تعرض لبنان لأزمة اقتصادية متعددة الأبعاد هي الأكثر إيلاماً وتأثيراً في تاريخه الحديث. وقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية والمالية المتواصلة التي بدأت في تشرين الأول 2019 بفعل التداعيات الاقتصادية المزدوجة لتفشي جائحة كورونا والانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت في آب 2020.
ووفقًا لتقرير البنك الدولي، فإن أزمة لبنان الاقتصادية والمالية صُنفت من ضمن ثلاث أسوأ أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
تداعيات الأزمة على قطاع التعليم:
شكلت الأزمة الاقتصادية في لبنان تحدياً مباشراً لكل القطاعات دون استثناء، وأهمها القطاع التربوي. فقد فقدت الليرة اللبنانية نحو 98 في المئة من قيمتها أمام العملات الأجنبية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تراجع قدرة اللبناني الشرائية إلى حدّ الانهيار.
ومن أهم تداعيات الأزمة الاقتصادية في لبنان على قطاع التعليم، نذكر ما يأتي:
أ- التسرب المدرسي:
مع ازدياد نسبة الفقر لم يعد بمقدور عدد كبير من اللبنانيين تسجيل أولادهم، سواء في الجامعات أو في المدارس، فحتى تكلفة نقل أبنائهم تحتاج إلى ميزانية ليس باستطاعتهم تأمينها، لا سيما مع ارتفاع أسعار المحروقات التي وصلت إلى حدود خيالية، عدا عن المستلزمات الدراسية من قرطاسية وغيرها، والحاجات اللوجستية (كهرباء وإنترنت).
وحسب تقييم صادر عن مكتب اليونيسف في لبنان، دفعت الأزمة في البلاد 4 من كل 10 شباب وشابات إلى تخفيض الإنفاق على التعليم، في سبيل شراء المستلزمات الأساسية من غذاء ودواء ومواد أساسية أخرى، وانقطع 3 من كل 10 عن التعليم كليًّا.
ب - هجرة الأدمغة:
أمام شعور الكثير من اللبنانيين بانعدام فرص الحل والخروج من المأزق، وأمام التحديات التي باتت تواجه كل لبناني وتدفعه إلى البحث عن مخرج خاص به، برز تحدٍ جديد أمام القطاع التربوي تمثل بتسرّب العديد من المعلمين والأساتذة والاداريين من ذوي الخبرة، في المدارس الإعدادية والثانوية والجامعات - الرسمية منها والخاصة - إلى الخارج، بحثاً عن فرصة عمل أفضل تساعد صاحبها على تجاوز وتخطّي هذه المرحلة.
يدخل إضراب الأساتذة في المدارس الرسمية شهره الثالث، كما نفذ أساتذة المئات من المدارس الخاصة إضراباً تحذيرياً للمطالبة بحقوق معيشية. ويواصل أساتذة التعليم الرسمي إضراباً شاملاً للمطالبة بدفع مستحقاتهم وحوافز وُعدوا بها، ويرفضون العودة قبل استيفاء مطالبهم التي تتلخص بشعار "حق الأساتذة بالعيش بكرامة". فمع انهيار الليرة اللبنانية وبلوغها أكثر من 80 ألفاً للدولار، تآكلت قيمة نحو 98 في المئة من رواتبهم.
وحتى اليوم، وفي ظل وجود حكومة عاجزة عن اتخاذ أيّ حلول واقعيّة عملانيّة، لم يُلحظ أيّ تقدّم ملموس بعد الإضراب، فالمعلم لا يزال يعاني من إهدار حقوقه، والطالب لا يزال مظلوماً، والعلم أصبح حبراً على ورق، أمّا ذوو آلاف الطلاب فلا يزالون يترقّبون بغصّة وحرقة مصير مستقبل فلذات أكبادهم، إذ تضيع الإضرابات عشرات الأيام الدراسية.
ثلاث دعائم قامت عليها الدولة اللبنانية وهي تشكل الركائز الأساسية لبنيان الدولة، هي: القطاع العسكري والأمني وعلى رأسه الجيش، القطاع المصرفي ويقوده مصرف لبنان، وقطاع التربية والتعليم وقوامه الجامعات والمدارس الحكومية والخاصة. لذلك فالتعليم في لبنان يعادل في أهميته الأمن والمال والنقد، وهو في صلب الأمن القومي. وأمام مطرقة انهيار اقتصادي أرخى بثقله على كاهل القطاع التربوي كغيره من القطاعات، يقع قطاع التعليم تحت سندان كوارث اجتماعية وصحية ومعيشية وبيئية... لتهوي به في قعر الهاوية، ويهتزّ بالتالي أهم مرتكز من مرتكزات الدولة، وليختلّ الأمن القومي اللبناني.
مصير قطاع التعليم؟
يسجِّل لبنان رقماً قياسيّاً في الإغلاق مما أدّى إلى تدهور التعليم. ويمكن وصف العام الدراسي اليوم بالكارثة الحقيقية التي تهدِّد أجيال لبنان، فالطالب يعيش عصر الانحطاط التعليمي، فلا مدرّس موجود، ولا مدارس تفتح أبوابها في بلد ينتظر معجزة حقيقية لتحلّ مشكلاته.
ولبنان، الذي يتمتع بمناهج قوية وبرامج تعليمية أجنبية تتحدث بـ3 لغات، أصبح اليوم في الحضيض، حيث لم تطبّق تلك المناهج، وبات الطالب مشتَّتاً، وتدنى المستوى الثقافي عند التلاميذ، وظلت تلك المناهج والبرامج حبيسة الكتب والملفات؛ كل هذا بسبب تقليصها واختصارها بطريقة عشوائية، ولا يتمّ شرحها بشكل وافٍ وكافٍ.
وذكر البنك الدولي في تقريره بعنوان "جيل كامل يواجه خطر الضياع: الآثار المدمرة لجائحة كورونا"، أن العبء الأكبر لهذه الأزمة سيقع على الأطفال والشباب الذين تراوحت أعمارهم بين 4 أعوام و25 عاماً، مما سيؤدي إلى خلق تفاوت هائل بين جيل وآخر، إذ إن بقاء الأطفال والشباب خارج الفصول الدراسية هذه المدة الطويلة لا يعني أنهم توقفوا عن التعلُّم فحسب، بل نسُوا الكثير ممّا تعلّموه.
وفي تقرير آخر بعنوان "التأسيس لمستقبل أفضل: مسار لإصلاح التعليم في لبنان"، أشار البنك الدولي إلى أن انخفاض مستويات التعلّم وعدم التوافق بين المهارات واحتياجات سوق العمل يعرّض مستقبل الأجيال الصاعدة في لبنان للخطر.
في الختام، إنها ليست ازمة اقتصادية فقط، ولا أزمة تربوية فحسب، بل هي - مع الأسف - أزمة مجتمع، أزمة قيم مجتمعية، أزمة أخلاق، أزمة مستقبل، أزمة وطن.