فتح اجتماع قادة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في العاصمة الإسبانية مدريد الباب واسعًا على مرحلة جديدة دخلها العالم، الأمر الذي دفع الكثير من كبار المحللين السياسيين والمؤرخين إلى وصف القمة بـ"الأخطر" من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية. إذ قدّم الاجتماع صياغة جديدة لوثيقة التحديات الأمنية خلال العقد المقبل، واضعةً بذلك روسيا على رأس أخطر التهديدات بوصفها التهديد الصريح والمباشر، فيما تم ضمّ الصين ضمن هذه التحديات لأول مرة، في إطار ما يعرف بـ"المفهوم الاستراتيجي" الجديد.
أمام ذلك، تشير المعطيات الميدانية والعملانية أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يملك أوراق ضغط كثيرةً اقتصادية وتكتيكية قبل أن تكون عسكرية، وربما أبرزها تتجلى بنقطة ضعف أوروبا تحديدًا على الحدود بين ليتوانيا وبولندا، حيث يوجد "المكان الأسخن" في العالم وهو عبارة عن ممر ضيّق قد يُشعل حربًا حقيقية بين حلف شمال الأطلسي "الناتو" وروسيا، وتاليًا إعلان انطلاق الحرب العالمية الثالثة وقد يكون المكان الذي سيكسر "جيش بوتين"، حيث سيتم فصل ثلاث دول أوروبية عن "الناتو"، فيما قد تستحوذ روسيا على جزءٍ من القارة الأوروبية سريعًا وهي الخطة البديلة بالنسبة لبوتين والهجوم الذي سيغيّر وجه القارة الأوروبية.
ولا يخفى على أحد قول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في آخر تصريحاته "إن حرب روسيا ليست على أوكرانيا فقط، بل هي على أوروبا كلِّها" ويمكن القول أن التصريح وتوقيته هما الأقرب إلى الواقع حاليًا. فبينما يتحدث الرئيس الأوكراني تعيش ثلاث دول من دول البلطيق تحت تهديد الحرب وهي ليتوانيا، لاتفيا واستونيا التي قد تكون تحت الحصار قريبًا.
فيما قد تدخل الأولى أي ليتوانيا مع بولندا في الحرب ضد "جيش بوتين" الذي اجتاح أوكرانيا من قبلهما، حيث لا صوت يعلو على صوت الحرب والصراعات. ذلك أن جَيْبًا روسيًا قد يضع الناتو في ورطة وقد يجبره على دخول الحرب أخيرًا. علمًا أن بوتين سيكون مضطرًا حينها لدخول معركة نووية. وهي شر لا بد منه!
لكن لماذا؟!
مما لا شك فيه أن الجميع يعرف الأهمية الكبرى التي يمثّلها إقليم كالينينغراد الروسي بالنسبة لموسكو ومن أجله قد تندلع حرب طاحنة. ذلك أنه مع إندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وفي ظل الانقسام العالمي، وقفت دول البلطيق بالكامل مع أوروبا، خصوصًا أن أغلبها عضو في "الناتو". وكان ذلك الوقوف يعني التزامها بالعقوبات التي فُرضت على روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي.
بيد أن ليتوانيا إحدى هذه الدول صنعت الفارق عن بقية دول البلطيق كونها تشكّل الممر الوحيد لوصول الإمدادات إلى الإقليم الروسي كالينينغراد، حيث منعت وصول البضائع عبر السكك الحديدية للإقليم والذي يعتبر ذا أهمية استراتيجية بالغة بالنسبة لروسيا، نظرًا لموقعه على بحر البلطيق بين بولندا في الجنوب وليتوانيا في الشمال والشرق. وتقدّر مساحته بنحو 223 كيلومترًا مربّعًا والذي ضمّه الاتحاد السوفياتي من ألمانيا عام 1945، وبقي في خلال الحقبة السوفياتية منطقة عسكرية مغلقة، ومع انهيار الاتحاد بقي الإقليم تحت سلطة روسيا، على الرغم من أنه يبعد أكثر من 400 كيلومتر عنها، وبات بمكانة استراتيجية مهمة، إذ ضمّ أسطول البلطيق الروسي وذلك في ميناء بالتييسك وهو الميناء الأوروبي الوحيد الخالي من الجليد.
الجدير بالذكر أن الحياة في إقليم كالينينغراد مرت بالعديد من التقلبات، لكن القضية الرئيسية بالنسبة لروسيا كانت طريقة العبور إليه. إذ منذ انضمام ليتوانيا إلى الاتحاد الأوروبي في العام 2004 بات من المستحيل السفر إلى الإقليم دون المرور عبر أحد اراضي دول الاتحاد الأوروبي. كما سُجِّلت مناوشات عدة من جهة ليتوانيا، خصوصًا بسبب لوائح العبور إلى الإقليم، حتى جاءت الحرب الروسية-الأوكرانية أخيرًا لتعلن عن توتر أكبر من كل التوترات السابقة.
في حين أن ليتوانيا وبقية الدول الأوروبية، وبعد منعها من وصول البضائع للإقليم، وضعت الأخير تحت حصار مطبق. إذ باتت البضائع تصله من روسيا حصرًا عبر البحر. فيما وضعت موسكو قواتها على مقربة من الممر الواصل إلى الإقليم وذلك من جانب بيلاروسيا الحليف القريب لموسكو.
وبناء على ما تقدم لا بد من الإشارة إلى الأهمية الاستراتيجية التي يشكلها ممر سوفالكي Suwalki Corridor الذي يعتبر الممر الوحيد الذي يصل بيلاروسيا بالاقليم الروسي ويمتد على طول 60 ميلاً ما يعادل طول الحدود البولندية-الليتوانية ويعتبره الغرب اليوم النقطة الأضعف بالنسبة له وفي الوقت نفسه النقطة التي تسمح لسيّد الكرملين أن يغيّر الموازين من خلالها. ذلك أن ممر سوفالكي يفصل فعليًا ليتوانيا عن بولندا، لكن خلف ليتوانيا يوجد دولتان تتبعان للناتو وهما استونيا ولاتفيا، ما يعني أن السيطرة عليه (أي ممر سوفالكي) يؤدي إلى عزل هاتين الدولتين بالكامل عن بقية دول الناتو، وتاليًا وصول الإمدادات للإقليم العسكري التابع لروسيا، ما يعني في المحصلة حالة حرب حقيقية ستُجْبِر حلف شمال الأطلسي على الوقوف بوجه روسيا بشكل مباشر.
ولعلّ السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: كيف سيحدث ذلك؟
على الجانب البولندي من الممر الطويل يطالب اليوم المواطنون حكومتهم ببناء ملاجئ محصّنة بشكل جيد ضد القنابل، وذلك خوفًا من هجوم روسي وشيك ومحتمل.
ووفق ما تحدثت شبكة "بي. بي.سي" BBC نقلاً عن سكان محليين فإن القلق تزايد على نحو كبير إثر اجتياح روسيا لأوكرانيا ما قد يعجّل من عملية عسكرية مشابهة على الممر الاستراتيجي، خصوصًا في ظل التعاون المستمر بين روسيا وبيلاروسيا حتى وصل لطلب الأخيرة بنشر أسلحة نووية على أراضيها، يضاف لذلك أن موسكو كانت في العام 2015 قد نشرت صواريخ بعيدة المدى في إقليم كالينينغراد، حيث تؤكد التقارير الغربية أن مداها يصل لدول البلطيق كافة، فضلاً عن كونها قادرة على تغيير المعادلة في حال تم الهجوم على ممر سوفالكي، ناهيك عن تأكيدات قائد القوات الألمانية في ليتوانيا "أنه في حال أقدمت روسيا على السيطرة على الممر فإنها ستفعل ذلك خلال فترة قصيرة جداً لا يتوقعها الناتو"، الأمر نفسه الذي أكدت عليه رئيسة الوزراء الإستونية كايا كالاس بالقول "أن روسيا قادرة على اجتياح دول البلطيق قبل أن يصبح حلف شمال الأطلسي في وضع يسمح له باستعادتها".
فيما يبقى السؤال: هل ستكون روسيا قادرة على فتح جبهة جديدة؟
صحيفة التايمز البريطانية ترى أن إمكانية فتح روسيا جبهة جديدة مرحلة بعيدة للغاية، خصوصًا أنها لم تعلن بعد انتصارها في شرق أوكرانيا وجنوبها.
من جانب آخر، تشكّل بولندا خطرًا كبيرًا على عملية موسكو في كييف. فمنذ انطلاق الحرب تحوّلت وارسو إلى ممرّ بارز لدخول المساعدات والأسلحة إلى أوكرانيا وذلك يشكل دافعًا لدى بوتين وجيشه لإشغال بولندا بحرب حقيقية معه بغية إبعادها عن دعم كييف، حيث تشير التقارير الاستخبارية الغربية إلى أن الهجوم الروسي قد يكون من جهة بولندا أكبر مما قد يكون من جهة ليتوانيا.
فيما يبقى التحدّي الأكبر أمام بوتين هو أن دخوله لتلك العملية تعني انطلاق حرب نووية رسميًا، حيث سيكون أمام مواجهة مباشرة مع حلف شمال الأطلسي "الناتو" الذي يتبنى مبدأ الدفاع المشترك في حال تعرضت دول الاعضاء للهجوم. وقد يبدو بوتين هنا كما أشرنا آنفًا مكرهًا على فعل ذلك إنطلاقًا من مقول شرّ لا بد منه.
وفي حال حدوث ذلك ستكون دولتان من الحلف بمرمى نيران بوتين ليُعلن بذلك انطلاق الحرب الكبرى في القارة الأوروبية !