النهار

حرب الصناديق وصندوق الفرجة
صورة تعبيرية.
A+   A-
غسان صليبي
 
على أرض لبنان حرب صناديق.
 
خمسة صناديق محليّة حتّى الآن مع توقّع ولادة صندوق سادس. الصناديق الخمسة: صندوق الاقتراع، صندوق السلاح، صندوق المصارف، صندوق مصرف لبنان وصندوق موازنة الحكومة. أمّا الصندوق المتوقّع ولادته فهو "الصندوق السياديّ" الذي ستوضع فيه أصول الدولة، أو "صندوق التعافي" كما اقترح الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي أخيراً. هناك أيضًا صناديق دعم، أبرزها الصندوق الفرنسي – السعودي. وفي مقدّم كلّ هذه الصناديق، صندوق النقد الدوليّ.
 
الصناديق الخمسة المحليّة في علاقة حرب. حرب وجوديّة – سياسيّة بين صندوق الاقتراع وصندوق السلاح. صندوق الاقتراع يمثّل إرادة المواطنين العزَّل وأصواتهم التي يعبّرون عنها لمناسبة الانتخابات. بحسب الدستور، نتائج هذا الصندوق تُجسِّد الإرادة الوطنيّة التي هي مصدر جميع السلطات، وعلى السلطات أن تتخّذ قراراتها بالعودة إليها حصريًّا.
 
صندوق السلاح هو الصندوق الذي يضع فيه "حزب الله" ذخيرته وأسلحته وصواريخه. لا ذكر لصندوق السلاح في مواد الدستور، ولا صلاحيات له، على مستوى اتّخاذ السلطات قراراتها. لكنّ صندوق السلاح يتدخّل، وفي أحيان كثيرة يملي قراراته، على السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة. مصدر سلطة صندوق السلاح، هو من يزوّد "حزب الله" بالسلاح، أي إيران.
 
الصراع حتميّ بين صندوق الاقتراع وصندوق السلاح، الأوّل أعزل ودستوري والثاني مسلّح وغير دستوري. تجدهما ينسّقان، لكنّهما متناقضان وجوديًّا، الواحد يفترض عدم وجود الثاني، رغم وجود ممثّلين لصندوق السلاح ولحلفائه في صندوق الاقتراع. الصندوقان يتنازعان القرار السياسي في شأن قضايا مصيرية من مثل النظامين السياسي والاقتصادي والثقافي والعلاقات الخارجية.
 
العلاقة بين الصناديق النقديّة والماليّة الثلاثة أكثر التباساً. فقد عرفت الصناديق الثلاثة تعاونًا شبه تام قبل الانهيار، فكانت شريكة في صوغ السياسات الماليّة والنقديّة وحصدت معًا الفوائد والأرباح. لكنّ "القلّة" اليوم "ولّدت النقار". الطبقة السياسيّة ومصرف لبنان والمصارف تتبرّأ من مسؤوليّة الانهيار، كلّ طرف يريد من الطرف الآخر تحمّل تبعات الخسائر. وكما هناك تقاطع في المصالح بين صندوق الاقتراع وصندوق السلاح، هناك تداخل كبير في المصالح في كلّ من الصناديق الثلاثة، للطبقة السياسيّة وحاكم مصرف لبنان وأصحاب المصارف. وإذا كان طابع الصراع هنا ماليّا، فهو سياسيّ أيضًا. كان وجود كلّ طرف في السابق دعما لوجود الطرفين الآخرين، إلاّ أنّ الصراع يتّخذ اليوم منحىً شبه إلغائيٍّ، بعد أن أصبح بقاء طرف على قيد الحياة رهنا بإضعاف أو بالقضاء على الطرفين الآخرين.
 
حرب الصناديق الماليّة والنقديّة تدور حول خطّة التعافي وما يواكبها من اقتراحات ونقاشات مع صندوق النقد الدولي. لا يشارك صندوق الاقتراع فعلياً في مناقشة خطّة التعافي. فالرأي العام في هيئاته المختلفة، النقابية والمدنية غائب عن التأثير، والمجلس النيابي يقرّ، بعد التكرير، ما تقرّره الحكومة. أمّا "حزب الله"، ممثل صندوق السلاح، فمواقفه ملتبسة وتفعل فعلها بالواسطة، ويبدو أنّه يتعمّد الغموض مسايرةً للطبقة السياسيّة ولجمهوره على حدّ سواء.
 
حروب الصناديق تجري تحت نظر صندوق النقد الدولي، الذي وإن توجّست منه جميع الصناديق الأخرى، تطالب به ولا ترى عمليًّا بديلاً منه. من جهته يضغط عليها لإقرار إصلاحات، لكنّه يسايرها أيضًا. ففي غياب أيّ مبادرات إصلاحيّة، وَقّع اتفاقًا على مستوى الموظفين بينه وبين الحكومة، مُظهِرًا دعمًا ضمنيًّا لأركانها على أبواب الانتخابات النيابيّة. وربما لإعطاء الحكومة بعض الصدقيّة أمام شعبها، فقد تضمّن الاتّفاق توجّهات اجتماعية تأخذ في الاعتبار مصالح المواطنين.
 
في تعريفه العام البسيط، الاقتصاد السياسي هو عرض وتحليل للنشاط الاقتصادي في علاقته بالقانون والسياسة. في ظلّ "حرب الصناديق". إنّ أيّ مقاربة للاقتصاد السياسي في لبنان في ظروفه الحاليّة، يجب أن تلجأ الى التفكير من "خارج الصندوق" Out of the box، بدل اجترار التحليلات الكلاسيكيّة او العقائديّة، التي تفترض وجود دولة سيدة يحكمها القانون، وسلطات دستورية مستقلة بعضها عن بعض، تستمدّ سلطتها من شعبها، وسياسات اقتصادية تقرّها الحكومات، وتنسيق وتشابك واضح بين السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي. الأخطر أنّ شعبنا بات ينظر الى هذه الصراعات التي تحدّد مصيره وتجري على حسابه، فيبدو كالأطفال أمام "صندوق الفرجة"، يستمع الى صاحب الصندوق وهو يردّد "يلّا تفرّج يا سلام... على عجايب الزمان".
 

اقرأ في النهار Premium