ماما نوال، والدة زوجتي، ماما نوال، والدة زوجتي، سيّدة فاضلة، تُدير مركزاً لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال، ولا علاقة لها بكرة القدم من قريب أو بعيد. بعد خسارة المنتخب السعودي أمام المكسيك، اتصلت بي لتقول: "لا تحزن، فما تحقق بحضور السعودية في المونديال أعظمى وأسمى من مجرّد فوز في مباراة. فلأول مرة، منذ حرب رمضان 1973 التي استعاد بها العرب وحدتهم، وحققوا انتصاراً عسكرياً على إسرائيل، لم أشهد حتى اليوم مثل هذه الاتحاد والتوافق والهدف الواحد. فبعد خمسة عقود أدمت قلوبنا خلافات الأشقاء وتشتتهم وتقاتلهم على أتفه الأمور، وبعد انتقال العدوى من الحكومات إلى الشعوب، وانتشار وباء العنصرية والطائفية والمناطقية، وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها التلاقي نوعاً من الحلم المستحيل. ثمّ جاء انتصار السعودية على الأرجنتين فحلّت المعجزة، وتغيّر في ساعات كلّ شيء!".
جذور الحبّ وغيث النصر
لم أشاهد المباراة، لأنني لا أفهم اللعبة، ولكنني شهدت ما يكفي من الأفراح العربية والإسلامية في كلّ مكان على وجه الأرض لأفهم أن المسألة ليست كرة فحسب، وأن الأمة كانت بحاجة إلى حافز، إلى هتّانٍ من الغيث ليوقظ بذور المحبّة والتآلف والانتماء. لم يمت شيء من هذا، ولكن تصحُّر الإنجاز في عالمنا، وغياب السيل والمطر عن قلوبنا، غيّب الزرع ويبس الضرع، ودفن جذور الحبّ في أعماق الأرض الطيبة.
تخيّل لو أعقب انتصار الكرة انتصارات أخرى للتنمية والبناء وعمارة الأرض! تخيّل لو حقق أبناؤنا مزيداً من الإنجازات على منصّات العلوم والمعارف. وتخيّل لو أننا هزمنا أعداء الإسلام والسلام من حولنا، ورددنا كيدهم إلى نحورهم! وتخيّل لو أنّ بلاد الحرمين ومهد العروبة قادت الأمة الإسلامية والعربية إلى التضامن المنشود والنهضة المنشودة، كما هو قدرها ومسؤوليتها!
"ملاعب الكرة كانت أفق انبعاث فجر جديد، يحقّ لنا أن نفخر ونسعد به، ومحطة انطلاق لقاطرة اليقظة والنهضة. نأمل أن تواصل طريقها لكلّ محطات العرب والمسلمين، لتصل بهم إلى ما قدر لهم أن يكونوا عليه "خير أمة أخرجت للناس""!
النصر المستتر
جاءتني الوالدة الحبيبة بهذه النفحة الإيمانية والقومية الواعية، وبهذه اللغة الغنيّة الجميلة، ثمّ تذكّرت أنّها حافظة ودارسة لكتاب الله، وباحثة في العلوم العربية والشرعيّة، فخجلت من استغرابي بالرغم من ندرة مشاركتها في النقاش والحوار السياسيّ. لقد استطاعت خلال دقائق أن تغيّر من مزاجي بعد الهزيمة، فتحوّل تشاؤمي إلى تفاؤل، وحزني إلى فرح، وضيق أفقي إلى سعة؛ وشعرت بأنها كانت رسالة ملهمة تساعدني على استيعاب السياق الأعمّ، والهدف الأسمى، والإنجاز الحقيقي.
عدت لمتابعة ردود الفعل العربيّة الدوليّة على المباراة، وخروج المنتخب السعودي من التصفيات، فوجدت تعاطفاً كبيراً، وتقديراً ليس فقط لجهود اللاعبين؛ فحضور السعودية في الدوحة كان طاغياً، وجمهورها حاز في تقديرات المراقبين أعلى الدرجات؛ فهم الأكثر عدداً، وحيوية، وروحاً رياضية. وعكس كبارهم وصغارهم قيم بلادهم وثقافتها وحماس شبابها للمشاركة في بناء مستقبلها.
الروح الرياضية بنكهة السعودية
كما كانت مداعبتهم للجماهير الأخرى، وظرف منافستهم لها، مثار التعليق والإعجاب. واستخدمت جماهير المنتخبات العربية والعالمية أهزوجة "ميسي وينه، كسّرنا عينه" (بعد استبدال اسم اللاعب) إثر كل انتصار على منتخب منافس، كما أغاظت بها الجماهير الأرجنتينية جمهور السعودية بعد هزيمتها من بولندا مردّدة "سالم وينه كسّرنا إينه"، فتقبّلها شبابنا بكلّ أريحية، وغنّوا للجمهور الأرجنتيني أهزوجة وطنية شهيرة باللغة البرتغالية، يقول فيها الشاعر "إذا متّ لا تغطوني بالزهور الحمراء بل دثّروني بعلم بلادي الأزرق".
نعم، توحّد العرب، وفرحوا لانتصار السعودية التاريخيّ، وصفّقوا لأدائها، وتعاطفوا مع هزيمتها، كما فرحوا بالانتصارات التاريخية لمنتخبَي المغرب وتونس، وصعود الأولى لدور الستة عشر. رفعوا الأعلام، وأطلقوا الألعاب النارية، ووزّعوا الحلوى والمشروبات في المقاهي والشوارع مع كلّ نصر. تناسوا معاناتهم في حلب وطرابلس والحديدة وبيروت، وحلّقوا فوق مصاعبهم المعيشية، وطابت أنفسهم بما تحقق على ساحات اللعب في الدوحة، والملتقيات في سوق واقف، وأعيادهم في القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي.
فلسفة الرياضة
ويبقى التساؤل المشروع: ماذا بعد؟ ماذا تعلّمنا من دروس الألمبياد؟
بتصوري أنّ أهمّ الدروس هو أنّ كرة القدم ليست مجرّد لعبة، وكأس العالم ليست مجرّد مسابقة. والرياضة قوّة ناعمة طالما استخدمت منذ الألعاب الأولمبية في أثينا، وعلى مدى آلاف السنين بعدها، كوسيلة لتجاوز مرض البشريّة الأزلي: التعصّب بكلّ أشكاله وألوانه. فعلى مدارج المنافسات يتساوى المتسابقون باللون والدم والدين، ويتمايزون بالعطاء والأداء والخلق، ويعود المنتصر بالجوائز ليس لنفسه فحسب، بل لقومه وجنسه ووطنه.
فبطل العالم في الملاكمة، المسلم الأميركي الأسود، محمد علي، تحوّل إلى أسطورة ملهمة لأميركا بكلّ ألوانها وأعراقها، والعالم بكلّ شعوبه وأديانه. وحمل بيليه وزملاؤه علم البرازيل إلى كلّ بيت في المعمورة، وهكذا فعل نجوم الرياضة في بقية الألعاب. فعُرفت رومانيا بلاعبة الجمباز ناديا كومانتشي، وهنغاريا بالهداف التاريخي فيرينتس بوشكاش، وهونغ كونغ ببطل الكونغ فو "بروس لي"، وجامايكا بأسرع عداء في التاريخ، الجامايكي، يوسين بولت، وباكستان بلاعب الكريكيت، عمران خان.
الدروس الدولية
ولذلك، فقد حرصت الدول، الصغيرة كما الكبيرة، على التخطيط الطويل المدى للمسابقات الرياضيّة، وبالعمل على نشر الثقافة الرياضيّة وتشجيع النشاط الرياضيّ في المدارس والجامعات والأحياء والأندية الصغيرة والكبيرة، واكتشاف المواهب مبكراً، منذ الطفولة، وتبنّيها، ورعايتها حتى تصل إلى العالمية.
هكذا فعلت اليابان عندما رسمت خريطة طريق، بدأت في العام 2018، وتصل إلى قمّتها في 2050 باستضافة المونديال والفوز بكأس العالم. تحقّق من الخطة حتى الآن وصولهم إلى دور الستة عشر في 2018، وهم في طريقهم لتحقيق الهدف الثاني، الوصول إلى دور الثمانية هذا العام. وهكذا تفعل السعودية اليوم بوضع التفوق الرياضيّ في جميع الأنشطة والمجالات على رأس قائمة أهداف رؤية 2030 واستضافة المناسبات الرياضية العالمية، كسباق السيّارات والدراجات والسوبر الاإيطالي والإسباني والغولف والسلّة والتنس والطائرة.
ثقافة الحياة
وبكلّ الأحوال، سنواجه المثبطين والمشكّكين، وأولئك الذين يتسترون بالدّين والقوميّة للتهوين من أيّ انتصار رياضيّ، باعتبار الكرة ملهاة، وإنجاز أقدام، لا سواعد أو عقولاً، وهدراً لطاقاتنا، وإشغالاً لها عن تحقيق انتصارات فعليّة، كتحرير الأقصى، واستعادة مجدّ الأمة، وومواجهة المؤامرات الصهيونية والإمبريالية.
وهناك أصحاب ثقافة الموت في مواجهة ثقافة الحياة، وحديثهم الدائم عن الصراع الأممي، والمجد عندهم الاستشهاد في ميادين القتال، والدمعة أسمى من البسمة، واللطم أجدى من الفرح، والدم أغلى من الماء، والهدم أولى من البناء. المفارقة أنهم لا يطبّقون ذلك دائماً، ففرقهم تشارك في المسابقات، ولكن تحت رايات جهاديّة، كتلك التي رفعوها ضد الشيطان الأكبر وإخوته الصغار. فإن فازوا اعتبروه نصراً إلهياً، وإن هُزموا عادوا لنغمة ملهاة الشعوب!
في كأس العالم بدوحة قطر، حقّق العرب إنجازاً تاريخيّاً، فقد انتصروا بحسن التنظيم والاستضافة، بالرّغم من حملات التشكيك والإساءة، وانتصروا بالإنجازات الكرويّة، وانتصروا بوحدة الصّف، وانتصروا بالروح الرياضيّة الجماهيريّة، تسامحاً، وخلقاً، وحسن تعامل. لقد شاهدنا العالم بعين جديدة، والأمل والطموح أن يشاهدنا أكثر وأطول بما سنحقّقه في كلّ مناسبة، وكلّ مجال.
@KBATARFI