عرف العالم البابا بندكتوس السادس عشر مفكّرًا ومحافظًا، غير متهاون فيأمور العقيدة وثباتها. غاص في يسوع المسيح، الإله المتجسّد، والعقائد المسيحيّة،وعالم الفلسفة القديمة، والوسيطيّة، والمعاصرة، وبخاصّة فلسفة أوغسطينوس، وفلسفةتوما الأكوينيّ، والفلسفة الألمانيّة في جميع مكوّناتها، والفكر الاجتماعيّ،والقضايا الإنسانيّة المعاصرة. ووضع أسس ثابتة، ومفاهيم فلسفيّة ولاهوتيّة. استفادمن ثقافته الأنثروبولوجيّة، والفلسفيّة، واللاهوتيّة، لتحليل مقياس الحياةالاجتماعيّة بين مواكبة روح العصر والتقاليد الرجعيّة، وفي مسيرة الإنسانالأنطولوجيّة في صراعه بين الحرّيّة والعبوديّة. الحرّيّة الإنسانيّة هي مشكلةوجوديّة وميتافيزيقيّة، لأنّ الشخص البشريّ هو كيان علائقيّ حرّ ومسؤول. تقومحرّيّة الإنسان الأصليّة على حرّيّة الاختيار بين الخير والشرّ، وعلى جدليّةالحرّيّة بين الطاعة والفرديّة، وديالكتيّة الصراع بين إرادة الله وإرادة الإنسان.في نقاشاته مع كارل رانر وهانس كونغ، صرّح قائلًا: "كان الدافع الأساسيّ لي، علىوجه التحديد خلال المجلس، هو تحرير النواة الحقيقيّة للإيمان من الظلم، ومنحهاقوّة وديناميّة. هذا الدافع هو حقيقة ثابتة في حياتي. لم أبتعد أبدًا عن هذاالثابت، الذي شكّل حياتي منذ طفولتي. لقد بقيت وفيًّا له كاتّجاه أساسيّ في حياتي".[1]
وُلد جوزيف راتسنغر فيألمانيا في العام 1927، في عصر ساد فيه التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ، والثورة علىالقديم، والرغبة في التحرّر من التقليد، والدعوة إلى آفاق جديدة، وأفكار متطوّرةعلى مفهوم الإنسان. هو من كبار معلميّ الكنيسة الكاثوليكيّة، وأغزرهم في كتاباتهاللاهوتيّة، والاجتماعيّة، والفلسفيّة. له مؤلّفات كثيرة في شرح العقائدالكاثوليكيّة، والقيم المسيحيّة، والفلسفة الإنسانيّة. لم يحصر نفسه في العلومالدينيّة أو اللاهوتيّة فحسب، بل تجاوزها إلى البحوث الفلسفيّة والأنثروبولوجيّة.ينتمي إلى المدرسة الألمانيّة الفلسفيّة واللاهوتيّة. درّس الفلسفة واللاهوت،وأصبح محاضرًا في جامعات ألمانيّة عدّة. ألقى محاضرته الأولى في جامعة بونعام 1959 بعنوان "الله في الإيمان والله في الفلسفة". وإبّان تواجده في جامعةتيبنغن (Tübingen) في جنوبألمانيا، كان ينشر مقالات أسبوعيّة في مجلّات فلسفيّة ولاهوتيّة. في 25 تشرينالثاني 1981، عيّنه البابا يوحنّا بولس الثاني رئيسًا لمجمع العقيدة والإيمان فيالفاتيكان، أحد أهمّ مجامع الكوريا الرومانيّة، الذي يُشتهر بتحديد مسائل العقائدالإيمانيّة، والتعليم الكاثوليكيّ حول العالم. وظلّ رئيسه إلى أن انتخِب بابا علىرأس الكنيسة الكاثوليكيّة في 19 نيسان 2005. استقال في 28 شباط سنة 2013 من منصبهنتيجة تقدّمه في السنّ، ليكون أوّل بابا يستقيل منذ ستّة قرون.
في سياق دروسهالمدرسيّة والجامعيّة، في اللغة الألمانيّة ومفرداتها، احتكّ بالأيديولوجيّاتالمعاصرة، وتيّارات عالم الحداثة، وما بعدها. تأثّر بمجموعة متنوّعة من الشخصيّاتالفكريّة واللاهوتيّة، كأوغسطينوس، وبونافنتورا، وأورس فون بالتازار، وإيف كونغار،وهانس كونغ، ورومانو جواردينيّ[2]، وهنري ده لوباك، وجوزيف بيبر، وكارل رانر،وغيرهم. لم يخرج فكره، بتعدّد رؤاه، عن إطار تيّارين كبيرين أو خطّين، رسما إلىحدّ كبير، مسار الفلسفة الكلاسيكيّة وتاريخها، وهما الفلسفة الأفلاطونيّة(المثاليّة)، والفلسفة الأرسطوطاليّة (الواقعيّة). لكنّه مال أكثر إلى فكر القدّيسأوغسطينوس، والفلسفة الأفلاطونيّة بوجهَيها التقليديّ والمحدث[3]. تُشكّل الفلسفةواللاهوت القطبَين الأساسيَّين من مكوّنات تعاليمه.
في كتاباته ومحاضراته،برز جوزيف راتسنغر رجل عِلم وإيمان، رجل فكر عاقل، يتطلّع إلى رؤية أنثروبولوجيّةإنسانيّة عميقة وحضاريّة، تستند إلى الأبعاد الفلسفيّة، والاجتماعيّة، والروحيّة،في محاولة لتجنّب خطرَين: خطر التشبّث بالتراث والدفاع الأعمى عنه، وخطر الارتماءفي أحضان التجربة الليبراليّة المطلقة. بنى فلسفته الإنسانيّة على القيَم الفكريّةوالروحيّة. ونادى بقيمة إنسانيّة، مبنيّة على القدرة الروحيّة التي تستوطن الكائنالإنسانيّ. لا يدعو إلى تمجيد الإنسان العقليّ أو رفضه، بل إلى تجاوز مرحلة الخوفوالترقّب إلى مرحلة الفعل، وبناء فكر أنثروبولوجيّ جديد، مبنيّ على الرجاء، يحترمكرامة الإنسان ووجوده الروحيّ، من دون أن يُقلّل من دوره العقليّ، والعلميّ،ومساهمته في تطوّر البشريّة نحو الأفضل. تأمّل التحوّلات التي طرأت على العالم،وغيّر صورته، وأقرّ بوجود أزمة تعصف بالمجتمعات المعاصرة من غير وجه: الأوّل، هوالتشابك والتداخل في القوى والتكتّلات التي يتركّب منها المجتمع العالميّ؛ والثانيهو امتلاك الإنسان قدرات هائلة على الفعل والتدمير، تحتاج إلى المراقبة والضبط؛والثالث هو انهيار اليقينيّات الخلقيّة التي كانت حتّى الآن تؤدّي دور الموجّهلمساعي البشر ومشاريعهم.
نال الكثير من النقد والتحدّي من الحركات المناهضة لتعليم الكنيسة، لعدم مواكبته روح العصر واتّجاهاته،إزاء بعض المشاكل الإنسانيّة والأخلاقيّة، لأنّه رفض أن يحصر الإنسان في العِلموحده على أنّه منقذ البشريّة[4]. انتقد مظاهر الأزمنة المعاصرة، ورأى أنّها ترتكزعلى الفردانيّة، وأهميّة الفرديّة الإنسانيّة. يتأسّس هذا الفكر على قاعدة أنّالإنسان هو سيّد قَدَره، وحاكم صيرورة وجوده، بفضل إبداعاته وعطاءاته. لذلك، يعتبرأنّ عمليّة التحديث السليمة لا تقوم على المظاهر والمؤشّرات الخارجيّة، بل علىالمضمون والجوهر، أي الإنسان. فمن دون تغيّر الإنسان في ثقافته، وقيمه، ونظرته إلىالذات والآخر، وعلاقته البنويّة مع الله، تبقى عمليّة التحديث ظاهريّة ومزيّفة، لاتعكس الواقع بأمانة، بل تهدم الإنسان، والقِيم، والحياة نفسها. لذا، يرفضالفردانيّة، ويُعطي أولويّة العلاقة مع الله والبشر، في الوقت نفسه. رفض فكرةاستلاب الذات من مقوّمات وجودها الإنسانيّة، والاجتماعيّة، والروحيّة. وشدّد علىأنّ سيادة الإنسان الفكريّة والعلميّة، في عالم الحداثة والتكنولوجيا، يجب ألّاتُبعده عن مفهوم جوهر الإنسان الروحيّ، وبنوّته لله. يرتبط كيانه الوجوديّجوهريًّا بالوحدة مع الله، وتكتمل ذاته الإنسانيّة في الحقيقة الإلهيّة، لأنّحرّيّة الشخص البشريّ هي علامة مسيحيّة فارقة ومتميّزة في تأكيد كرامة الإنسانوالشخص البشريّ. ويتوسّع راتسنغر في إبراز مشاكل الإلحاد، ونكران وجود الله، فيتحطيم القيم الإنسانيّة، وتهديم معنى الحياة. في الإلحاد، يخسر الإنسان ذاته.فيأتي جواب الإيمان، جواب بندكتوس، ليبيّن أنّ اكتمال الذات الإلهيّة لا يقوم إلّاعلى اكتمالها في الحقيقة الإلهيّة.
في هذا الإطار، اتّسعتدراساته، لتشمل تطوّر الإنسان في أبعاده الثقافيّة، والعلميّة، والروحيّة،والاجتماعيّة، والإنسانيّة، والدينيّة. فجعلته يرى أنّ سؤال الإنسان عن ذاته ملازملكينونته التاريخيّة. سؤال استولده قلقُه: من أنا؟ من أين أتيت؟ ما هو مصيري؟ إنّهسؤال الفلسفات القديمة والمعاصرة على حدّ سواء. وهو السؤال نفسه الذي أعاد طرحهاللاهوت المسيحيّ. حاول بندكتوس أن يصوغ نظرة عن الإنسان تكون بمثابة رؤيةأنثروبولوجيّة فلسفيّة لاهوتيّة جديدة، تتوافق وتقدُّمَ العلوم بصيغتها الحديثة،استنادًا إلى الدور الذي يجب أن يؤدّيه الإنسان نفسه، وانطلاقًا من مسؤوليّاتهالتاريخيّة في مسيرة الخلاص التي حقّقها الله. فوضع الإنسان في مرتبته الإنسانيّةوالإلهيّة معًا؛ ورفع من قدسيّة كيانه وكرامته ضدّ أيّ محاولةٍ لتقييم الشّخصوفقًا للمعايير النفعيّة، أو قانون القوّة، متجاوزًا التيّارات الوجوديّة الملحدة،والنسبيّة الأخلاقيّة، التي حصرت وجود الإنسان في واقعه الآنيّ. الإنسان كائنشخصيّ مثل الله، شخص روحيّ، مزوّد بحرّيّة داخليّة، عامل مناقبيّ،قادر على التمييز بين الحقّ والباطل، بين الخير والشر، وتسمح له علاقته المطلقةكشخصٍ مع إلهٍ شخصيّ بـشخصنة العالم كلّه. وجد نقطة مشتركَة تتمثَّل في التشديدعلى الموقع المتميّز للإنسان في الكون، بحيث أنّ هذا الإنسان لم يعد كائنًامسحوقًا أمام قوى الطبيعة، أو عنصرًا من سائر عناصر هذا الكون وحسب، بل هو مخلوقعلى صورة الله ومدعو إلى التألّه.
يُشكّل موضوع أنسنةالإله وتأليه الإنسان النقطة الأبرز في عقيدة البابا بندكتوس اللاهوتيّةوالفلسفيّة. وحدة الله بالإنسان والإنسانبالله هي الركن الأساس، إذ يبدو الله إلهًا منظورًا في شخص يسوع المسيح. وما تاريخالمسيح سوى تاريخِ الله بصورة بشريّة[5]. استند إلى فكرة تأليه الإنسان بفعل تأنسنالإله. خلق الله الإنسان كي يُشاركه حياته الإلهيّة، ويُصبح شريكًا له في طبيعتهالإلهيّة (٢ بطرس 1: 4)، كي يصير إلهًا بالنعمة الإلهيّة، على حدّ قول أوغسطينوس.لم يخلق الله الإنسان كي يموت ويفنى، بل أراده كائنًا، يحيا إلى الأبد مثله. ومعأنّ الإنسان أراد أن يجعل نفسه إلهًا من دون الله، بالاستغناء عنه، لم يشأ الله أنيتخلّى عنه، بل انحدر إلى العالم، ليعيد الشركة معه. يصنع الإنسان زمنه، ويرسمملامح مصيره بإرادته، وحرّيّته، وحجم حضوره في هذا الكون، تجدّدًا، وابتكارًا، وإبداعًا،بنعمة من الله الخالق. فيتكامل الفعل الإنسانيّ في نهاية الأمر مع الإرادةالالهيّة، ويتجلّى من خلالها صورة الوحدة بين الله والإنسان، والإنسان بالله فيشخص يسوع المسيح الإله - الإنسان.
لكي يبرّر نظرته،انطلق البابا بندكتوس من عقيدة محبّة الله، وتجسّد يسوع المسيح. كتب أكثر من كتابحول شخص يسوع، وكان أبرزها كتابه يسوع الناصريّ[6] في أجزائه الثلاثة، الذي جاءتتويجًا لكتاباته اللاهوتيّة والفلسفيّة حول إنسانيّة يسوع وألوهيّته. ليستالألوهة سوى تلك التجربة الموحدّة بالمحبّة. والمسيح هو المحبّة المتأنّسة. اعتنقحياة الإنسان وخضع لسنّة الولادة، والألم، والموت، فأعطى شهادة في المحبّةالإلهيّة والإنسانيّة معًا. تاريخ المسيح هو تاريخ الله بصورة بشريّة. يسوع هو رمزتلك المصالحة، وإشارة إلى أنّ الله ليس خالقًا فحسب، بل هو محبّة أيضًا. تتغلغلفكرة المحبّة في كتاباته كلّها، وتُعتبر نقطة ارتكاز لفلسفته الأنثروبولوجيّة.إنّها أساس موت الله وقيامته، وركيزة أساسيّة من ركائز الحبّ، حبّ الله للإنسان.الحياة تعقب الموت، والموت هو عبور إلى الحياة. لا معنى لحياة المسيح المتألّموصليبه من دون القيامة، التي تؤكّد انتصار الحبّ والحياة على الموت. ليس الصليبإلّا ممرًّا إلى الفصح، ولا يُمكن فصله عن القيامة، ولا فهمه إلّا في ضوء المحبّة،نواة قانون الإيمان. تُفسّر هذه الحقيقة مجمل تعاليم راتسنغر، وجوهر مسيرة الإنسانفي مسيرة الحرّيّة، والوعي، والتأليه.
يُذكّر قداسته دائمًا،في كتاباته وعظاته ببعدَين أساسيَّين: "الحبّ والعقل". وفي شرحه العلاقةبين الحبّ والعقل، يوضح، في رسالته الله محبّة، أنّ الابتعاد عن الله، وفقدانالمبادئ الأخلاقيّة، هي المشكلة الأساسيّة في القرنين العشرين والواحد والعشرين.يتمتّع الإنسان بقدرة الحبّ والعقل في مسيرته الإنسانيّة، وهو مدعوٌّ إلى أن يُوحّدبين العقل والحبّ. من جهة، يجب أن يكون الحبّ معقلنًا، للحدّ من المبالغة فيالمشاعريّة والأحاسيس، وفي الوقت عينه، يجب أن نكون مستعدّين لنبذ كلّ الأعمالالخاطئة التي تهدم كرامة الإنسان. بالتالي كلّ مغالاة في الإيمان، تضحى عائقًافي فهم المسائل الدينيّة. ينسحب الأمر نفسه على المغالاة في استخدام العقل والعلمكوسيلة وحيدة لحلّ كلّ المسائل. لذا، يتمنّى بنتدكتوس أن يكون الإيمان معقلنًاليساعد الإنسان على برهنة وجود الله، واكتشاف قدسيّة الإنسان وتأليهه، مشدّدًا علىمتانة العلاقة بين الفلسفة والفكر الكاثوليكيّ حول مفهوم الإنسان[7]. يركن اللاهوتنفسه إلى الفلسفة. وإذا أبى اللاهوتيّ أن يستعين بالفلسفة، فإنّه يتعرّض لأنيتفلسف من غير أن يدري، وينحصر ضمن بُنًى فكريّة، لا تُساعد كثيرًا على فهمالإيمان. كذلك الفيلسوف إذا نفى كلّ علاقة باللاهوت، ظنّ نفسه ملزمًا بأن يحتكرلذاته محتوى الإيمان المسيحيّ، كما جرى لبعض الفلاسفة.
يستخدم راتسنغر العقلوالإيمان ليستخرج تصوّرًا، من معين العلوم الإنسانيّة، والفلسفيّة، واللاهوتيّة،يجعل من الإنسان إلهًا، ليس مستقلًّا عن الله، أو بحسب النظرة الإلحاديّة، إلهًايقتل الله من حياته، بل إلهًا مؤلّهًا بفعل سرّ الخلق، والتجسّد، والفداء. يستطيعالإنسان المخلوق حرًّا، أن يوفّق بين الموقف العقليّ والموقف الإيمانيّ، بينمكتسبات العقل ومستلزمات التصديق الإيمانيّ، فيستنير بسلطة العقل من غير أن يُطلق عليهاصفة المعصوميَّة المطلقة، ويتيح العقلُ للاختبار الإيمانيّ أن ينشط في دائرةالتذوّق الجماليّ لله، من غير أن يُنصّب نفسَه قاضيًا على هذا الحيّز الاختباريّالأعمق في الكيان الإنسانيّ.
في هذا السياق، يرىقداسته أنّ الكنيسة قادرة على تحرير الإنسان، إذا أدّت دورها التاريخيّ، ورسالتهاالروحيّة والإنسانيّة، في عالم يعيش في حقبة مهدّدة بخطر وجوديّ، وقلق، وحيرة،وتشاؤم سياسيّ، وتراجع أخلاقيّ، ومتعطّش إلى جواب، ورجاء، وسلام[8]. جاء هذاالجواب عبر أثير إحدى الإذاعات الألمانيّة في عام 1969: "كيف ستكون الكنيسة فيالمستقبل؟". باستطاعة مستقبل الكنيسة أن ينبثق، وسينبثق من الذين يتمتّعون بجذورعميقة، ويعيشون من كمال إيمانهم النقيّ. لن ينبثق من الذين يكادون لا يُكيّفونأنفسهم مع اللحظة الآنية، أو ممّن ينتقدون الآخرين، معتبرين أنفسهم معصومين منالخطأ. لن ينبثق من أولئك الذين يختارون الطريق السهل، ويتجنّبون شغف الإيمان،معتبرين أنّ كلّ ما يُطلب من الإنسان، ويجرحه، ويفرض عليه بذل التضحيات خاطئًا، قدمرّ عليه الزمن، أو هو اعتباطيّ واستبداديّ. سيتحدّد مستقبل الكنيسة، مرّة جديدةكما في كلّ مرّة، على أيدي القدّيسين، والرجال القادرين على التفكير بعمق، يفوقالشعارات الآنيّة، وينظرون أبعد من الآخرين، لأنّ حياتهم تستقبل واقعًا أوسعَ.
يظهر خطاب راتسنغر خطابًافلسفيًّا-إنسانيًّا، لا ينحصر في الحديث عن الله كعقيدة الثالوث، أو الخلاص، أوالإسختولوجيا، أو غيرها من القضايا العقائديّة، بل هو خطاب عن الإنسان المغمور فيالله، وما يعيشه في ضوء الإنجيل. تاريخ الله مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتاريخ البشر.فما من خطاب يختصّ بالله إلّا ويمتزج بخطاب يتعلّق بالإنسان، امتدادًا إلى ما يجمعالإنسان بالله والله بالإنسان. كلّ حديث عن الله يؤدّي إلى حديث عن الإنسان أيضًا،لأنّ الله الذي يوحي بنفسه للإنسان، يُخاطب الإنسان عن الإنسان أيضًا. في رسالتهبمناسبة عيد الميلاد عام 2006، صرّح البابا بندكتوس بشكل لا لبس فيه بأنّه "من دوننور المسيح، لا يكفي نور العقل لتنوير البشريّة والعالم"[9]. وكأنّه يقول: أؤمنبالإنسان لأنّي أؤمن بيسوع المسيح الإله-الإنسان. ويحاول الدفع بالإنسان إلىالأمام، وإضاءة الطريق بالرجاء.
حاولت فلسفة راتسنغر اللاهوتيّة أن تٌضيء شرارةً في ظلمة العالم، فاقتربفكره من معاناة الإنسان الفرديّة والجماعيَّة، واستطاع أن يُعبِّر عن حقيقة هذهالمعاناة، ويُخاطب الإنسان بلغة لاهوتيّة-فلسفيّة وإنسانيّة، يُظهر فيها معنى وجودالإنسان، وبعده الإلهيّ، فاتحًا بذلك بُعدًا جديدًا للفكر الإنسانيّ، يجد فيهأجوبة عن تساؤلات، قد تراوده حول نشأته، وغاياته، وإنجازاته، ومن شأنها أن تُحفّزهعلى السعي إلى ما يُرضي طموحاته الإنسانيّة الحقيقيّة. في الواقع، يبدو بنديكتوسأكثر حداثة، وعقلانيّة، واستنارة، من كثير من المُحدثين الذين يتعاملون معالعلمانيّة والحداثة كديانة جديدة أو كلاهوت تقدّميّ. ويتخطّى الأكثريّة الساحقةمن الذين يتحدّثون عن العقلانيّة، والعلمانيّة، والاستنارة، لتلميع الصورة، أوبصورة تلفيقيّة. أضحت كتاباته ملجأ وثروة، يُمكن للمرء أن يستند إليها للتفكير.وقد برز عمق جذور فكره الفلسفيّ في كلّ مؤلّفاته ومقابلاته، نذكر منها، على سبيلالمثال، المقابلة مع هبرماس، التي نُشرت باللغة العربيّة تحت عنوان جدليّةالمعرفة، والمقابلة مع بطرس زيفالد، التي نُشرت بالعربيّة، أيضًا، في كتاب ملحالأرض، فتكلّم على علاقة الإنسان المعاصر مع ذاته ومع الألوهة، وعن القضاياالإنسانيّة المعاصرة. وأخيرًا، في هذه المسيرة الواسعة في رؤى كتابات البابابندكتوس، لا يسعنا إلّا أن نقول إنّ هذا المفكّر يحتاج إلى دراسات واسعة للتأمّلفي كلّ جوانب فلسفته ولاهوته. ونحثُّ باحثين ومفكّرين آخرين على القيام بدراساتجديدة، تعمل على بناء إشكاليّاتها بغيةَ التعمّقِ في فكره، في عالمٍ متغيّرٍ باستمرار،بمخاطره، وبالرجاء بالمستقبل، الرجاءِ القابع دومًا في أعماق الشخص الإنسانيّ.