تتوالى الأحداث والتحركات السياسية في منطقة الشرق الأوسط بشكل متسارع ومفاجئ ومدهش، وكأنما الاتفاق السعودي - الإيراني فتح أبواب تحوّل جديدٍ، تتدافع أمواجه لتُحيي الحلول وتميت المعاناة، ولتسقي المخلصين وتغرق العابثين في كلّ منطقة مبتلاة وبلد مبتلى، ولكلّ لاعب ومؤثر منتج ومدمّر، مكسب وخسارة. حالة تغيّر وتغيير وفرصة مواتية للتحوّل باتجاة حركة التاريخ ومواكبة لإيقاع العصر. مَن لحق بها، وتفاعل معها، وتوافق مع أهدافها، لحق بقطار التحوّل، وساهم في إنقاذ وطنه، ونجا من الطوفان؛ ومَن تمسّك بجمعه وسبله، وأصرّ على مواجهة المرحلة ومقارعة أسيادها والتشبث بما "وجدنا عليه آباءنا"، دهسته عجلة التحوّل، أو فاته موعد الرحلة.
السعودية ومصر... قصة الأمس
بالأمس، وصل الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، في زيارة خاطفة إلى مدينة جدّة، استغرقت بضع ساعات، وكان في استقباله ولي العهد السعودي، رئيس الوزراء، الأمير محمد بن سلمان، الذي استضافه على السحور. تبدّت في أجواء الاستقبال والتوديع وغياب الرسميّات روح الصداقة ورفع الكلفة بين الزعيمين العربيّين.
ذكّرتني الزيارة التي لم يعلن عنها مسبقاً، ولم يصدر عنها بيان رسميّ يفصّل ما دار فيها، بزيارات الرئيس أنور السادات التي خطط خلالها مع شهيد القدس، الملك فيصل بن عبدالعزيز، لحرب رمضان، ثم أدارت تداعيات الحرب، ومنها قطع النفط السعودي عن الدول المؤيدة لإسرائيل، خاصة الولايات المتحدة الأميركية. فقد كانت زيارات خاطفة، تستغرق أحياناً ساعات، من دون إعلان عن فحوى مباحثاتها يتجاوز العناوين العريضة للتعاون والتنسيق بين البلدين الشقيقين.
تداعيات الاتفاق السعودي - الإيراني
في الإطار نفسه، أقرأ الاتفاق الأمني لحماية الحدود بين العراق وإيران، وإعادة فتح القنصليات السعودية والسورية، وزيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى مصر، والاجتماعات الرئاسية اليمنية في الرياض لتدارس مسار السلام؛ وكذا انسحاب حزب الله من اليمن وسوريا، والحديث عن إغلاق مكاتب القنوات الحوثية في الضاحية الجنوبية، وصفقة إطلاق الأسرى بين الحكومة الشرعية والميليشيا التي نصّ عليها اتفاق استكهولم، وصمود الهدنة بين الطرفين ومع قوات التحالف، والزيارة التي قام بها مستشار الأمن القومي الإيراني علي شمخاني، الذي وقع الاتفاق السعودي الإيراني، إلى الإمارات.
فخلال هذا كلّه، كانت جلسات مباحثات تٌعقد بين كبار المسؤولين والتنفيذيين، واتصالات هاتفية مباشرة تتم بين وزيري خارجية السعودية وإيران؛ ولم تعد هناك حاجة إلى الوساطات والأراضي المحايدة، فقريباً يجتمع الطرفان لإنهاء تفاصيل عودة البعثات الدبلوماسية، وإحياء الاتفاقين الشامل (1998) والأمني (2001)، وترتيب خروج آمن للقوات الإيرانية من بلدان عربية، وابتعاد عن الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
اللاعب التركي
تركيا ليست بعيدة عن الترتيبات العربية لحلّ الملفات العالقة، فهي أيضاً تبحث عن مخرج آمن من عشّ الدبابير العربي في سوريا وليبيا، وتسعى لفك الارتباط مع جماعة الإخوان المسلمين وتخفيض الصلات مع الجماعات الجهادية "السوركانية" والقاعدية والداعشية. ففي نهاية المطاف، المصلحة التركية فوق كلّ اعتبار. وحلّ مشكلة اللاجئين بعودتهم إلى بلادهم، وإصلاح العلاقات مع مصر والعراق، وتطويرها مع السعودية والإمارات، يتطلّب هذا الفكاك. خاصّة في الظروف الصعبة التي تمرّ بها المنطقة العربية وهضبة الأناضول.
والنجاح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية التركية في شهر مايو/ أيار المقبل يتطلّب إطفاء الحرائق مع الجيران، ومواجهة تداعيات الزلازل وحرب روسيا - أوكرانيا والتضخم والكساد الدوليّ والمحليّ. ومن دون دعم مباشر وقويّ من الخليج العربي وأوروبا وأميركا وعلاقات مستقرّة وآمنة مع البلدان العربية، تتضاءل فرص الفوز بكرسي الرئاسة والأغلبية البرلمانية والبلديات، في المدن الكبرى والأشدّ أهميّة، إسطنبول وأنقرة وإزمير.
ساحة لبنان
وماذا عن لبنان؟ أراهن على أنّ المصالحات والتوافقات ستعم بفائدتها هذا البلد الذي دفع دوماً ثمن وجوده في قلب ساحة الصراعات بين الكبار. فكما اكتوى بالصراع البعثي، العراقي - السوري، والإسرائيلي - الفلسطيني، في العقود الماضية، يدفع اليوم ثمن الصراع الإيراني - العربي، ونتائج الأزمة السورية، ويحمل عن الأمة العربية عبء ملايين اللاجئين والمشرّدين والمهاجرين، علاوة على غيرهم من العراق واليمن. كذلك يتحمّل هذا التزاحم على إدارة البلاد وتوجيه دفتها بين العرب والفرس، وبينهما والغرب.
تجفيف منابع العنف والإرهاب وإزالة أسبابه في لبنان وسوريا، وإخراج العصابات الجهادية والقوات الأجنبية، وعودة دمشق إلى الحاضنة العربية، بالتزامها تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، والعودة إلى المسار السلمي والدستوري بإشراف أمميّ، وتنفيذ القرارات الأممية بشأن لبنان، ومنها تسليم حزب الله لسلاحه والمتهمين في قضية اغتيال الحريري، والعودة إلى قواعده الحزبية الوطنية والدستورية كمكون سياسي لبناني، وحلّ مشكلات الفراغ الرئاسي والحكومي والهيكلي، وإصلاح الاقتصاد والمال بفرض الحوكمة وتصحيح مسار البنك المركزي، كلّها ظروف ملائمة يعمل عليها الطرفان، السعودي والإيراني، ومن شأن التوصل إلى حلّ لها عودة الدعم العربي والدولي، ومعه المستثمر والسائح والمغترب.
اللحظة التاريخية المناسبة
وفي تصوّري أن كبار المؤثرين في حالة تواصل، وربما توافق على الأقلّ، حول الخطوط العريضة للحلّ. فروسيا تريد تأمين سوريا قبل انسحابها العسكري التدريجي، ما عدا القاعدتين البحرية والجوية، للتفرّغ لمواجهة الناتو؛ وإيران بحاجة إلى التقاط الأنفاس والتفرّغ لتسكين الداخل، وتخفيض فاتورة التدخل، وتأمين الحدود، وفتح الجسور السياسية والتجارية والاستثمارية مع الجيران؛ والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي لديها مشاريعها التنموية الكبرى، وبحاجة إلى استقرار وأمن للتفرّغ لها واستقطاب المستثمر والتاجر والسائح الأجنبي؛ ومصر تكاد تغرق في ترعة الأزمة الاقتصادية، وأبرز شواهدها التضخم وانهيار الجنيه وتسلّط الجيش على الاقتصاد المحلّي والخلافات المتصاعدة مع الدول الداعمة حول أدائها الحكومي.
هموم العالم وحلّ لبنان
أما فرنسا وإسرائيل فحالة الغليان الشعبي فيهما تصرفهما عن التفرغ للملف اللبناني، أو الصرف عليه. وتنشغل بريطانيا بأزمتها المالية الخانقة والمظاهرات الصاخبة، وأميركا بالمواجهة مع المحور المتشكل الجديد، الروسي - الصيني - الهندي - البرازيلي، وأوروبا في أزمة الطاقة وحرب أوكرانيا. والعالم كلّه يواجه خطر الكساد ونقص الموادّ الغذائية وغلاء الأسعار.
ولهذا كلّه، أتصوّر أن الجميع يريد حلاً للمشكلة اللبنانية، فلا تحمّلهم أعباء مالية، ولا تُشغلهم عن قضايا ذات ِأولوية، ولا تشكّل لهم أخطاراً أمنية. وبانتهاء زمن المماحكات والتحديات، وبتوقيع اتفاقية الحدود مع إسرائيل، يبدو أنّ الطريق باتت ممهّدة لإخراج بلد الأرز من مقايضات السياسة الإقليمية والدولية، ومساعدة قادته على الخروج من النفق بخطة عمل مدعومة، مع حوكمة أممية، وإشراف إقليمي إلى التطبيق.
أهل الدار أولى بإطفاء النار
قد لا تُحل كلّ مشكلات لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن. وقد تنتكس الخطة الشاملة لتصفير المشكلات وإنهاء الحروب، وقد تواجه المسيرة بعض العراقيل والخلافات، إلّا أنّ المشهد الحاضر ومستقبل المنطقة المنظور يبدو أكثر أماناً واستقراراً، ويحكمه التوافق، أكثر من أيّ مرحلة مرّت بها المنطقة في نهاية الألفية الماضية وبداية الألفية الثانية.
وهنا يأتي دور أهل الدار، وهو أهمّ الأدوار، فلا حلّ يُمكن أن يتحقّق من الخارج، إذا لم يكن الداخل مقتنعاً، مستعدّاً، ومتحمّساً له. وإن لم يكن متلهّفاً لخلاصه، ومقدّما لمصلحة الوطن على مصلحته، ومتجرّداً من الأجندات المعلنة والخفيّة، الطائفيّة، والشخصيّة؛ والقضيّة الفلسطينيّة المزمنة، العصيّة، خير مثال.
الفرصة باتت مواتية لحلول شاملة، ونهاية مقبولة، وعودة لحالة السلم والأمن والاستقرار. وبداية لمشوار التنمية ومواكبة العصر. والأمل قائم في أن يستثمر العرب، خاصة في البلدان المبتلاة، الفرصة للخروج من النفق المظلم الطويل. فلحظة تاريخيّة، تحوّليّة، كهذه قد لا تتكرّر.
* أستاذ في جامعة الفيصل
@kbatarfi