لاحظ أحد المغردين على "تويتر" كثرة تهانئ العيد من قادة العالم، ومن ذلك تحية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجميع المسلمين، والذين بلغ عددهم 15 ف المئة من الشعب في روسيا، وتهنئته لضيفه المسلم بعبارة "عيدكم مبارك". فيما ارتفعت التكبيرات من أكبر جوامع موسكو في حضور مئات آلاف المصلين.
عام الرحمة أو السباق
رد الرئيس الأميركي جو بايدن على بوتين، باستضافة قادة من الجالية الأميركية المسلمة، والذين بلغ عددهم في الولايات المتحدة 3.5 ملايين، في حفل إفطار بالبيت الأبيض. وعدّد إنجازات إدارته في تمكينهم ومحاربة الإسلاموفوبيا. وهكذا فعل رئيسا الوزراء البريطاني والكندي، والرئيسان الألماني والأوكراني، وعدد من كبار القادة في الشرق والغرب، ربما للمرة الأولى بهذه الكثافة. وسُمح للمسلمين بأداء صلاتهم في الميادين العامة والملاعب الرياضية ووفرت لهم الأجهزة الحكومية كل الخدمات البلدية والأمنية لتنظيم هذه المناسبة العزيزة على قلوبهم.
وعلّق المغرد: ماذا يجري بالضبط؟ هل هو عام الرحمة، بعد أعوام الوباء، أم أن العالم يسابق نفسه لاسترضاء المسلمين، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ وردّ عليه مغردون بفرضيات وتوقعات وإجابات، بعضها ساخر وبعضها تآمري. حتى تصدى حكيم منهم للإجابة، فأبدى التفاؤل بتفهم العالم وتعاطفه مع أحوال المسلمين، مستبعداً نظرية المؤامرة، وإن لم يستبعد سباق العالم على كسب ود البلدان الإسلامية في أجواء الصراع الدولي على المصادر الطبيعية والمواقف السياسية وتشكل نظام عالمي جديد.
مصالحات مكة
وفي مكة المكرمة كنت أرقب سباقاً من نوع آخر باتجاه السلم والشراكة في منطقة الشرق الأوسط. ففي الأيام المباركة من أواخر شهر رمضان استضافت العاصمة المقدسة عدداً من زعماء العالم الإسلامي، وكان المجلس الرئاسي اليمني الجديد أول الزائرين، والمهنئين للعاهل السعودي وولي عهده بالشهر الفضيل وقدوم العيد السعيد. وتسرّبت أخبار عن قرب إعلان اليمن عضواً كامل العضوية في مجلس التعاون الخليجي.
ثم كانت المفاجأة "المرتقبة" بزيارة الرئيس التركي رجب طيب أردودغان يرافقه وفد من مئتي عضو، يمثلون قطاعات حكومية وحزبية مختلفة، مع أسرهم. ومع انني تنبأت في مقالة سابقة بهذه الزيارة في هذا التوقيت، إلا أنني فوجئت وغيري من المراقبين بحجم الوفد، وترقية الزيارة بروتوكولياً من "دينية" الى "رسمية"، واستقباله في احتفاء فاخر يليق برئيس دولة كبرى في قصر السلام بمدينة جده، من قبل الملك سلمان والأمير محمد بن سلمان وعدد من القيادات السعودية، يتقدمهم الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، الذي كان في استقباله في المطار، والأمير بدر بن سلطان بن عبد العزيز الذي كان في وداعه، مع تمديد الزيارة من يوم الي يومين. ثم جاءت التصريحات الإيجابية المبشرة من أنقرة والتقرير الرسمي المرحب من التلفزيون الرسمي السعودي ووكالة الأنباء السعودية، بعد الزيارة، لتضيف المزيد من التفاؤل بنجاحها.
أزمة السنوات الخمس
ولا يخفى أن العلاقات السعودية - التركية كانت تمر بأزمة حقيقية لم تحدث في تاريخها، فبعد خمس لقاءات قمة جمعته مع العاهل السعودي في عامي 2015 و 2016 وتوقيع اتفاقات استراتيجية تشمل التعاون في مجال التصنيع العسكري والطاقة والزراعة والأمن والتجارة، وزيارة عمل للمملكة في 2017، لم يقم الرئيس أردوغان في السنوات الخمس اللاحقة بأي زيارة دينية أو رسمية، وتوقفت الوفود السعودية عن زيارة تركيا، بخاصة بعد زيارة الأمير خالد الفيصل، عام 2018، ولقائه الرئيس أردوغان، لمعالجة ملف مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والتي قابلها تعنت وإصرار على تصعيد المسألة دولياً.
ولعل أبرز مؤشرات الخلاف أن الواردات السعودية من تركيا انخفضت بنسبة 93.7 في المئة كما توقفت زيارة قرابة مليون سائح ومستثمر وتاجر سعودي سنوياً. ونتيجة للمقاطعة الشعبية والرسمية السعودية والخليجية والعربية، والصراعات التي خاضها الجيش التركي في العراق وسوريا وليبيا والصومال، إضافة الى التوترات السياسية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، انخفضت الليرة التركية والصادرات الصناعية والزراعية، فيما ارتفعت الديون السيادية والتضخم والبطالة والفوائد البنكية الى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية التركية. وانعكس ذلك كله سلباً على معدلات الرضا عن أداء الرئيس والحكومة، وبات مستقبل الحزب الحاكم في الانتخابات المقبلة، عام 2023 على كف عفريت.
تصفير المشاكل
لذلك، كان لا بد من العودة الى سياسة تصفير المشاكل في العلاقات الدولية والتي قادت البلاد الى أعلى معدلات النمو والرخاء في تاريخها، فكانت مبادرات المصالحة مع الإمارات ومصر والسعودية، وإسرائيل، وتخفيض مستوى العلاقة مع الجماعات الجهادية والمنشقين العرب، بإغلاق منصاتهم الإعلامية والبحثية وطرد بعض الكوادر والقيادات، وتقييد إقامة البعض الآخر. وجاءت زيارة الرئيس أردوغان الى الإمارات والسعودية، واستقباله للرئيس الإسرائيلي، وتحركات وفوده السياسية والأمنية في المنطقة العربية، وعلى رأسها مصر، وتخفيض التصعيد في سوريا وليبيا، داعمة للمسار الجديد. ويتفاءل الرئيس في تصريحاته الأخيرة بقطف ثمار هذا التحرك خلال الأشهر المقبلة، وبخاصة في موسم الصيف السياحي بعودة أكثر السياح انفاقاً... السائح الخليجي.
عودة باكستان
وبعد زيارة أردوغان بيوم وصل الوفد الباكستاني بقيادة زعيم المعارضة السابق، رئيس الوزراء الجديد، شهباز شريف، الى المدينة المنورة ومنها الى جدة، في أول زيارة خارجية له منذ توليه السلطة. جاء ذلك بعد استقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان الذي تأرجحت بوصلة علاقته بالسعودية وإيران بشكل غير معهود في تاريخ التحالف الاستراتيجي بين البلدين منذ استقلال باكستان عام 1947. ورغم أنه لا توجد خلافات بارزة بين الرياض وإسلام آباد، إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها باكستان حالياً، وتأخر بعض المشاريع الكبرى التي وُقعت بينهما بقيمة إجمالية بلغت عشرين مليار دولار خلال زيارة الأمير محمد بن سلمان في 2019، وأبرزها مصفاة ميناء جوادر بعشرة مليارات دولار، والتعاون التاريخي والمتنامي في مجال الطاقة النووية والمشاريع العسكرية، شكلت مع التهديدات الأمنية المشتركة ملفات مهمة تتطلب معالجة سريعة.
كما شملت "دبلوماسية العشر الأواخر من رمضان"، استقبال عدد من الزعماء الأفارقة هم الرئيس السنغالي ماكي سال، ورئيس المجلس العسكري الانتقالي في جمهورية تشاد محمد إدريس ديبي، ورئيس جمهورية القمُر المتحدة، عثمان غزالي، ورئيس جمهورية كوت ديفوار الحسن واتارا.
مشاورات بغداد
وفي بغداد، اختتمت جولة المشاورات الخامسة بين السعودية وإيران في ضيافة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بأجواء بدت إيجابية، كما تشير التقارير العراقية والإيرانية. ففي ملفات كترتيبات الحج للعام المقبل، الذي ستفتح فيه الأبواب على مصاريعها، بعد عامين من القيود الصحية، تعود إيران بحملة حج كبيرة. فنسبة الى عدد السكان، المقدرة بثمانين مليوناً، يحق لها أن تصل الى سقف الثمانين الف حاج. وهو عدد ضخم، ويحتاج الى تنسيق عالٍ بين الأجهزة المعنية في البلدين، بخاصة مع ميل الحملات الإيرانية الى التظاهر السياسي وأعمال الشغب.
أما في الملفات الأصعب، وأهمها التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية، ودعمها للميليشات والجماعات الإرهابية في المنطقة، فيبدو أنها لم تحرز تقدماً كبيراً. فمن ناحية كان الوفدان على مستوى أمني واستخباراتي محدود الصلاحيات، وبالتالي يصعب توقع مناقشة مواضيع سياسية كبيرة، كملفات اليمن وسوريا ولبنان. وربما يصل مستوى التمثيل في المشاورات المقبلة الى مرحلة أعلى، حيث يرى العراقيون والإيرانيون أن تكون على مستوى وزاري.
وأياً كانت النتائج، فالعودة الى طاولة الحوار، بعد إلغاء الجولة السابقة، مبشرة في حد ذاتها. خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار تأييد إيران لهدنة الشهرين بين جماعة الحوثي المدعومة منها، وبين الحكومة اليمنية المدعومة من التحالف العربي، مع إحياء مسار السلام الذي كانت أبرز نتائجه، حتى الآن، عملية تبادل آلاف الأسرى بين الطرفين.
العودة للبنان
وفي لبنان تتحرك السعودية بالقوة الناعمة على مسافة واحدة من كل الأطراف، ما عدا الطرف الإيراني بالطبع، وجمعت المائدة الرمضانية للسفير النشط، صاحب العلاقات الواسعة، وليد بخاري جميع أصدقاء السعودية والعرب من كل الأطياف السياسية والاجتماعية والثقافية، بلا تفرقة ولا تحيز … ولا تدخل. فالانتخابات النيابية قادمة وهي شأن داخلي خاص باللبنانيين وموقف السعودية الدائم والثابت هو الدفاع عن حق الدول العربية السيادي في إدارة شؤونها ورفض الهيمنة والتدخلات الأجنبية.
وعلى مسار آخر، رعى السفير بخاري عدداً من المشاريع الانمائية والخيرية التي يقدمها مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية بالتعاون مع الحكومة الفرنسية. كما التقى بالقيادات اللبنانية لتأكيد دعم السعودية للبنان وخطط الحكومة لإصلاح الأوضاع الاقتصادية والعودة الى سياسة النأي بالنفس. ولعل بشائر العيد تكتمل بتحديد موعد لزيارة الرئيس نجيب ميقاتي للديار المقدسة قبل الحج. وربما خلال زيارة الرئيس الصيني للمملكة.
عيد العرب الدولي
كل هذا الحراك في المنطقة العربية، لا يبدو بعيداً من المشهد الدولي والاهتمام الذي تبديه الدول الكبرى، من الملف النووي الذي يمس أمن المنطقة، الى تفعيل التعاون الأميركي الأمني والعسكري مع دول الخليج. ومن اللافت الملف النفطي الذي يرتبط بالعلاقة المحورية مع روسيا وشراكتها مع السعودية بقيادة "أوبك +"، الى الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني شي جينبينغ، للسعودية، واللقاء المتوقع خلالها مع القادة الخليجيين والعرب.
ولعل هذه التحركات والملفات تفسر، ولو نسبياً، حرص العواصم الكبرى على المباركة بعيد الفطر، والتودد للمسلمين. فالشرق الأوسط الجديد يبدو واعداً، ومبشراً… وأكثر سلاماً وتسامحاً، وسياديةً وحياديةً. كل عام والعالم بخير.
@kbatarfi