منى حمدان
الكثير، الكثير. لطالما كانت تلك إجابتي عن سؤال: "لماذا لم ترحلي بعد؟ ماذا تبقى لكِ في بيروت؟".
واجهت هذا السؤال منذ سنواتٍ طويلة، حتى قبل هذه الأزمة بسنوات، وبقيت إجابتي كما هي.
اليوم، بعد هذه العلاقة الطويلة مع هذه المدينة، كل ما أفعله هو البحث.
أبحث عن هذا الكثير. عما تبقى منه. أحاول لملمة الفتافيت التي تهرب من بين يدي كالغبار، وتتبعثر في الهواء، كأنها لم تكن.
حينها كنت أملك الكثير، وكانت روحي قد تعلّقت بهذه المدينة القَلقِة طوال الوقت، من دون أن أدري كيف تسلّلت إليّ تلك المشاعر.
التماس الأول مع بيروت
أذكر جيّداً أول تماسٍ لي مع بيروت، بعد انتهاء الحرب، عام 1993. كنت حينها في العاشرة من عمري تقريباً، وأخذنا والدي في جولةٍ في وسط المدينة.
كان كل شيء حولنا يشي بالموت، وكانت المدينة محمّلة بروائح وغبار لم أتنشّقها من قبل، ولم أفهم سبب انتشارها.
كان الركام يغطي وسط بيروت، والحرب تركت بصمتها على نُصب ساحة الشهداء، الذي كان مصاباً بطلقاتٍ هشّمت أجزاءً منه.
بعد سنواتٍ قليلة، عرفت أن حروباً هوجاء شُنّت على هذه المدينة حتى أنهكتها، وفهمت سبب الدمار الهائل الذي أُلحِق بها، قبل إعادة ترميمها.
في السادسة عشرة من عمري بدأت بالانخراط في بعض الأنشطة السياسية، من اعتصامات وتظاهرات، وكانت أصواتنا حينها تملأ شوارع المدينة وتكسر صمتها، أو هكذا كنا نعتقد ويخيّل إلينا.
في هذه الفترة بدأ التماس الحقيقي لي مع هذه المدينة، فكانت بالنسبة إلي حاضنةً لاحتجاجاتي، وأمنياتي، وطموحاتي، وغضبي، وفرحي.
شارع الحمرا كان عاصمة جيلنا
في التسعينيات، شكّل شارع الحمرا، أحد أصغر شوارع هذه المدينة، ملجأً لأبناء جيلي، للتسكّع والمشاركة في الأنشطة الثقافية، ولقاء الصديقات والأصدقاء.
لم يكن ذلك غريباً، لأن هذا الشارع عرف شهرةً كبيرةً منذ سبعينيات القرن الماضي.
فكان مكاناً لجأ إليه كثيرون/ات، ومقصداً خصوصاً لليساريين/ات، والعاملين والعاملات في الشأن الثقافي، والأدبي، والصحافة.
لهذه الأسباب وغيرها، كان هذا الشارع هو قلب بيروت الذي أَوقعنا، من دون أن ندرك حينها، في فخ ضبابية وغموض البدايات، فخدعنا بريقها.
شهد هذا الشارع، الذي اعتبرتُه مدينتي، عدداً كبيراً من خيباتي، وأحلامي.
ففيه رقصت، وبكيت، وغنّيت، وزرت حاناته، وضحكت من قلبي، ووقعت في الحب، والتقيت الأصدقاء والصديقات.
لذلك ربما، رسمت لها صوراً واهية، أَكسبتها رومانسيةً بالغةً في داخلي، إلى أن كَشفتْ عن أنيابها فجأة.
موت المدينة البطيء
لا أدري تحديداً متى شعرت بموت هذه المدينة؟ كم سنة مرّت ونحن نخدع أنفسنا بأننا أحياء ونعيش في مدينة حية؟
لكنني أيقنت الآن أنها كانت تموت بشكلٍ تدريجي أمامنا من دون أن ندرك، أو نعي، أو نرى ذلك، فغرقت في ضجيج الموتى.
كما فهمت مصدر الروائح المنبعثة منها. هي رائحة جثثنا التي تعفّنت داخل مدينة ميتة، وشعرت أننا أصبحنا مجرد أشباح.
كانت السنوات الماضية صعبةً جداً ومرهقة نفسياً وجسدياً، عشت فيها مطاردات لا تنتهي ومعارك يومية مع كل شيء.
فأحزنني اكتشافي حقيقة أن مدينتي ليست ما تخيّلته وعشت على أساسه أكثر من 35 عاماً، لكنني لا أعرف حتى اللحظة مَن المُلام هنا.
هل كنا مخدوعين ببراءتها وأحلامنا الرومانسية عنها، ولطالما كانت كذلك؟ أو هي التي تحوّلت فجأة إلى مدينة من دون رحمة، صاحبة أسنان حادة، تتغذى علينا وعلى أرواحنا، بسبب أفعال البشر، وما مر عليها من غزوات وحروب وخيبات متتالية.
لكن ما يخطر في بالي في معظم الأحيان أن النتيجة واحدة، فلماذا أَرهقت نفسي طيلة سنوات؟ النتيجة أنها أصبحت مكاناً ليس مقدراً لأحد العيش فيه بسلام.
لم أعد أشعر بالأمان فيها، خصوصاً بعد أن أصبحت مساحةً غير مناسبة للحب أو الأمل، إلا أن السؤال الذي يخطر لي هو: هل يجب أن نقاوم هذا الموت، أو نخضع له؟
لكن المقاومة أحياناً تساعد المتاهة على ابتلاعنا. فهل علينا أن نختار معاركنا لتفادي هذا الابتلاع في العدم؟
التمسك بهذه المدينة
اليوم، وعلى الرغم من الأزمة الكبيرة على مختلف الأصعدة، التي تواجه لبنان، ما زلت هنا، وما زلت مصمّمةً على البقاء هنا، لأسبابٍ أحاول يومياً فهمها.
اعتقدت يوماً أن مدينتي برية وبدائية لم تلوّثها يد البشر، لكن اتضح أنها باتت عاجزةً عن استيعاب وجودنا، وهواجسنا، وأحلامنا، وأمنياتنا، وشعورنا بالحياة نفسها.
فما الذي تبقّى حقيقةً من بيروت؟ وكيف استطاعت تغيير معالمها؟