النهار

أحداث الأردن... زوبعة في فنجان أم نار تحت الرماد؟
الشارع الأردني (أ ف ب).
A+   A-
"عسى أن تعيش حياة حافلة بالأحداث المثيرة"... هذه ليست دعوة محب، بل لعنة صينية إبتلينا بها. وكأنما قدر أمتنا أن تنام على حدث وتصحو على آخر، لا يكاد يمر يوم من أيامها الا بجديد غريب ومحزن.

وهكذا استيقظنا على محاولة جديدة لتغيير نظام عربي من أكثر الأنظمة ثباتاً واستقراراً وأمنا. واستعدنا ذكريات "الخريف العربي" الذي عصفت رياحه بقلاع العرب، فأطاحت بها واحدة بعد أخرى، ابتداء من تونس التي استقر بها الحال منذ الاستقلال، لنصف قرن، الى ليبيا التي جثم القذافي على صدرها أربعين عاماً، الى مصر التي صمد نظامها الجمهوري ستة عقود، فسوريا البعث المحكومة بعائلة الأسد خمسين سنة، وحتى جمهورية القبيلة في صنعاء التي صمدت خمسة عقود بعد مملكة القبيلة التي دامت الف عام...

أعاصير الثورة وممالك العرب

على أن تسونامي الثورات عجز عن المساس بالممالك العربية، ذلك لأنها بنت قلاعها على أرضية صلبة اساسها عقد اجتماعي أزلي، بين راع ورعية، وعلاقة أسرية بين قيادة وشعب.

والمملكة الأردنية الهاشمية مثال على ذلك. فرغم محاولات سبقت لانقلابات داخلية مدعومة خارجياً، أثبت الملوك والعشائر العربية قدرتهم على مطارحة المؤامرات والانتصار عليها. سقط المتآمرون اليساريون والعسكريون في 1957 أمام يقظة الملك الشاب، حسين بن طلال، وولاء أبناء الأردن جيشاً وشعبا للأسرة الهاشمية، ومثلها فشلت محاولات الثوريون والقوميون العرب اللاحقة. ثم تكررت المحاولة مرة أخرى عام 1970 بعد أن ظن ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية أن قواتهم وسلاحهم والدعم السوري لهم سينتصر على الملكية، فإذا بالقبضة العربية ممثلة بالجيش والقبيلة تسحقهم وتطيح بدولتهم الموازية وميليشياتهم المستفحلة، في ايلول (سبتمبر) أسود، دامي، انهى وجودهم السياسي والعسكري في الضفة الشرقية الى الأبد.

يد الخارج وشريك الداخل

نقطة ضعف الأنظمة القوية تكون غالبا داخلها. فالكوة التي يدلف منها انقلاب ناجح، هي تلك التي تفتحها الخلافات الداخلية. ولهذا يعمل المتآمرون على استغلال الظروف الدقيقة والصعبة التي تمر بها البلدان، والخلافات بين القادة حول كيفية مواجهتها. وما يخالط ذلك من أطماع وأوهام للوصول الى ديوان الحكم عبر السلالم والأبواب الخلفية. وطالما هناك مظلومية تتوقد ورغبة تتلظى وأذن تسمع، هناك سحرة تعقد ونار توقد وذئاب تترقب. وهكذا، نمنا على استقرار بلد آمن، ونظام قوي، واستيقظنا على محاولة أخرى لشق صف القيادة، وتثوير الشعب والعشيرة، وإيلاج بلد عربي مستنير في نفق مظلم، طويل.

وكما في كل مرة، الأصابع الخارجية، الإقليمية والدولية، تتآمر مع طابور الداخل لتشعل وتوجه الحريق. فكما قادت أميركا أوباما، وتركيا أردوغان، والإخوان ثورات العرب في العقد الماضي، تتحرك قوى خفية من الداخل والخارج لتستغل معاناة الشعب الأردني من مظاهر الفساد وسؤ الإدارة وتردي الأحوال المعيشية فتسلط الغضب بإتجاه القصر وتوقظ الحلم بالخلاص على يد قيادة جديدة، تظهر حبها للوطن، وحرصها على الشعب، وتخفي ولاءها للأجندات الحزبية والدولية. وسرعان ما يكتشف الحالمون أنهم كالمستجير من الرمضاء بالنار. وأن الحلول الجراحية التي يعرضها الانقلابيون بديلا عن الحلول الدوائية ليست مضمونة ولا مدروسة، وتنتهي في معظم الأحوال الى أسوئها.

السيناريو الأردني

في العودة الى الحالة الأردنية، نجد أن السيناريو يكاد يكون لكاتب واحد، ومخرج واحد، وربما اللاعبين أنفسهم. فالأمير حمزة بن الحسين، شاب جميل، متعلم، متدرب عسكريا، كثير الشبه بوالده، المؤسس الحقيقي للمملكة الهاشمية، وصاحب الشعبية الطاغية، الذي أقترب من الشعب حتى أحس بنبضه، وأدرك معاناته، وتفاعل مع متطلباته. ولعله يستقي من تجربة والده وأخيه ما ينفعه.

تولى الملك حسين الحكم شاباً صغيراً، بعد تنحية والده الملك طلال بن عبدالله الأول، وقاد بلاده في ظروف عصيبة، واستطاع بموازنة علاقاته بين القوى الإقليمية والعالمية، وبين المكونات السكانية، الفلسطينية والأردنية، المسلمة والمسيحية، الحضرية والقبلية، أن يواجه كل الأعاصير، وينجو من معظمها، وإن خسر بعضها وكان أكثرها قسوة احتلال الضفة الغربية والقدس الشريف، وآخرها ميله الى عراق صدام حسين، وخلافه مع دول الخليج.

عرش على الماء

وتولى الملك عبدالله الثاني في ظروف لا تقل صعوبة وخطورة، فقد ورث عرشاً يقف على توازن دقيق بين شعب تغلب عليه القومية والعاطفة الدينية، وحكومة تقيم علاقات متميزة مع اسرائيل. بين قوى اقليمية تتنازع القيادة العربية وقوى عجمية تسقط أمجاد الماضي على خرائط الحاضر. بين ملكيات مستقرة حليفة وجمهوريات وراثية، عسكرية، مضطربة. بين معسكر شرقي زاحف، ومعسكر غربي متمكن.

ثم جاء احتلال العراق واضطراب أحوال سوريا ومصر. وتراكمت الأزمات، من توافد اللاجئين من الشرق والشمال، وتقلب الاقتصاد الدولي بعد انهيار الاسواق الأميركية في 2008 وسوق النفط في 2015... وأخيراً وباء كورونا.

اشعلت القرارات التقشفية التي فرضتها القروض الدولية والاصلاحات المالية تظاهرات وتحركات سياسية معارضة، في الداخل والخارج. كما أدت مقاومة الملك للزحف الإيراني والاخواني والداعشي والتنمر الليكودي، الى تحديات أمنية وسياسية واجتماعية، متتالية ومترابطة.

حاول الملك الشاب بدعم سخي من الدول الخليجية والرعاة الدوليين، خصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا، التسديد والمقاربة، فنجح حينا، وخذلته أحياناً حكومات عجزت عن مواجهة التحديات والاضطرابات والاحتياجات الشعبية، وبرلمانات تصارع فيها النواب على كسب الشارع وتحقيق الغلبة الحزبية، على حساب الواجب والمسئولية.

الأيدي الخفية

ثم جاءت الأيادي الخفية، كما في كل سيناريو عربي، لتؤجج النفوس، وتوجه الغضبة، وتخترق الصفوف. ولأنها تدرك صلابة المؤسسة الملكية وحلفها القوي مع الجيش والقبيلة، أختارت أن تستغل ما حسبته صدعا داخلها.

فقد صورت لها عقلية المؤامرة أن هناك أمير شاب يشعر بأن ولاية العهد سلبت منه في 2004، بعد أن منحها لها والده عام 1999، وملكة تعودت على الأضواء والسلطة، وحرمت من حلم العودة اليها من بوابة أبنها. وظنت أن هناك مجموعة من أبناء الأسرة والعشيرة تأمل في الوصول الى العرش عبر بوابة حمزه.

كما تلاقت تصوراتها وحساباتها مع حزب متمكن في مفاصل الحكومة والبرلمان، يشعر أن الوقت قد حان لإحياء مبادرة "الربيع العربي" والوصول الى مقاعد الحكم في دولة محورية بعد أن خسرها في كل الدول التي وصل فيها أو حاول الوصول، ويكاد يخسر حتى ملاجئه في دول المنطقة، بعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، وبدأت المراجعة البراغماتية لميزان المصلحة الوطنية والانتماءات العقدية.

قراءة "تويترية"

وقراءة سريعة لتغريدات وبيانات بعض الأطراف، تشي بالترابط بين النص والمعنى، وبين الخطاب الداخلي والانتماء الخارجي. كما تظهر التناقض بين خطاب "المقاومة" والقومية، والعلاقات المصلحية مع الصهاينة. وبين ما كان اصحاب التغريدات عليه ايام السلطة، وبين ما تحولوا اليه في مقاعد المعارضة.

والعجيب أيضاً، أن يغرد المعلق الصهيوني، إيدي كوهين، قبل ثلاث أيام من الاحداث الأخيرة، ويكشف، نقلا عن مصادر مخابراتية غربية، عنها. وأن يتورط سياسي صهيوني، يقود شركة امنية استخباراتية دولية، في عرض لتهريب عائلة الأمير حمزة.

كما لا بد من التساؤل عن حرص الجزيرة والـ"بي بي سي" على نشر البيانات والفيديوات المتسرعة والمتشنجة من أطراف معارضة لمؤسسة الحكم.

نهاية الامتحان

الأيام لا تزال حبلى بالمفاجات والغرائب، فاللعنة الصينية التي أصابت عالمنا العربي و والعالم كله، لا تزال فاعلة. ولكن الأمل كبير والثقة أكبر في وعي ولحمة وتكاتف القيادة الاردنية والأسرة الهاشمية ونشامى الأردن، وقدرتهم على تجاوز هذه الابتلاء والتهديد لامن واستقرار ورخاء بلادهم.

وتبشر بهذا الاتجاه آخر الأخبار عن توافق داخل الأسرة ودور ايجابي يقوده العم- الوالد الأمير الحسن بن طلال، الذي أوكل اليه الملك مسار الحل، وتجاوب واع وحكيم من الأمير حمزة بن الحسين، والتزام منه بهذا المسار.

مسار الاصلاح

التوافق الهاشمي، والشعبي، العربي والدولي، على دعم الملك عبدالله وتأييد اجراءاته في التعامل مع الأحداث يؤيد التفاؤل بنهاية الامتحان. فما أتى صراع او خلاف أو تصعيد بخير، وتاريخ البلاد العربية خير شاهد.

ونأمل بعد تجاوز هذه المحنة واستيعاب هذا الدرس، في أن ترسم الحكومة خريطة طريق لاستفاقة إدارية واقتصادية تضع حلولا جذرية لمواجهة التحديات وحل المشكلات وعلاج الأمراض المزمنة، مستعينة بكفاءات الوطن ووقفة الاشقاء وتعاطف المجتمع الدولي مع دولة تمثل قلعة أستقرار وأمان في منطقة تعصف بها الصراعات، وتهددها المخاطر والأطماع والتدخلات الأجنبية. فالتاريخ لا يكرر دروسه على من يعي درسه الأول.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium