جولة وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في منطقة الخليج، التي بدأت في عُمان، ومرّت بالبحرين، انتهت في الرياض باجتماعه مع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي، وأثمرت تفاهمات، المعلن منها يتعلق بعدد من الملفات في المنطقة، وأخرى بينية مع المجموعة الخليجية، ومع كل بلد على حدة.
جولة استباقية
تأتي الجولة قبل أسابيع من الزيارتين المرتقبتين للرئيسين الصيني والأميركي للرياض، اللتين يُتوقع أن تناقشا مع زعماء مجلس التعاون الخليجي والحلفاء العرب، ملفات مماثلة، تتقاطع أو تتعارض مع المواقف الروسية تجاهها. كما أتت قبل أيام من اجتماع أوبك + بمشاركة روسيا لتحديد موقفها من زيادة الإنتاج لمواجهة الطلب المتزايد نتيجة للمقاطعة الغربية للنفط الروسي.
يشي التوقيت بأسباب وطروحات الجولة، وإن تعذّر الجزم بنتائجها. فمن جانب، تحرص موسكو على تماسك حلفها مع دول الأوبك بقيادة السعودية، ومكانتها ودورها فيه. ويهمّها أن لا تستبعد من قرارات الحلف بشأن دعوات التجاوب مع احتياجات السوق وتداعيات غزوها لأوكرانيا عليه. فهي لا تزال من أكبر ثلاث دول إنتاجاً، مع السعودية والولايات المتحدة، وتشارك الرياض كأكبر الدول المصدّرة. ورغم تناقص كمّية استيراد دول الاتحاد الأوروبي، فإن اتفاقيات طويلة المدى مع الصين (أكبر مستورد للنفط في العالم) وأخرى مع الهند، مع ارتفاع سعر النفط لمستويات تاريخية، تضع روسيا في موقع ريادي، إن لم يكن قيادياً، في تحالف أوبك+.
توطيد العلاقات
ولعل ممّا وثق العلاقات الروسية الخليجية، خاصّة مع السعودية والإمارات، والروسية العربية، خاصّة مع مصر والجزائر، موقف الحياد الإيجابي الذي اتخذته تلك الدول، وحرصها على عدم الانجراف مع الاندفاع الأوروبي – الأمريكي لعزل موسكو وفرض أقصى العقوبات عليها وقطع أواصر علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العالم.
فحتى اليوم، لم تصدر من هذه الدول بيانات تندّد بروسيا وتؤيّد أوكرانيا، أو توقف تعاملات مالية أو تجارية، أو تصادر ودائع أو مصالح روسية. ولا تزال العقود العسكرية والغذائية والاستثمارية قائمة وجارية مع الدول العربية. وقد أبدت روسيا تقديرها لهذه المواقف، وحرصها على ثباتها.
وساطة خليجية
ولعل من اللافت ما أعلنه وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في بيان أوضح "موقف المملكة المبنيّ على أسس القانون الدولي ودعمها للجهود الهادفة للتوصّل إلى حلّ سياسي ينهي الأزمة ويحقق الأمن والاستقرار".
ويتماشى مع هذا التصريح، اجتماع الوزراء الخليجيين عبر الاتصال المرئي مع وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، عقب اجتماعهم مع وزير الخارجية الروسي، مما يؤكد الرغبة الخليجية في القيام بدور إيجابي لإنهاء الأزمة والاستعداد للقيام بالوساطة بين الطرفين، وترحيبهما بذلك.
ودائع واستثمارات
وعلى خط موازٍ، أكدت الامارات تأمينها للودائع المليارية الروسية في بنوكها، وحفظ حقوق ومصالح المستثمرين الروس. وزادت فرحّبت باستقبال المزيد من الودائع والاستثمارات واستضافة السائح والمقيم، المستثمر والتاجر الروسي.
ولم يختلف هذا الموقف عن مواقف مماثلة من الرياض والمنامة. فالبنوك البحرينية وفرص الاستثمار السعودية ما زالت مشجّعة ومرحّبة بالودائع والاستثمارات الروسية من القطاعين العام والخاص. كما بقيت سلاسل الإمدادات وكافة التعاملات المالية والتجارية الروسية والاوكرانية نشطة مع دول الخليج.
روسيا في سوريا
وفي الملفات السياسية والأمنية والعسكرية، تبقى روسيا لاعباً رئيسياً وفاعلاً في المنطقة. فحضورها في سوريا حجّم الى حدّ كبير من التغوّل الفارسي فيها. والانسحاب الجزئي الذي حصل شجّع طهران على زيادة وجود قواتها وميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية والباكستانية داخل البلد وعلى حدودها مع جيرانها، خاصة لبنان والأردن. كما نشطت عمليات تهريب السلاح والمخدّرات البرية عبر العراق وسوريا، في محاولة لتعويض ما خسرته عمليات التهريب البحرية التي تستهدف السعودية.
وبناءً على ذلك فإن بقاء السيطرة الروسية على الأجواء والموانئ، في هذه المرحلة، يسهم بخفض التصعيد الإيراني، ويحدّ من الهيمنة على المؤسّسات السورية، بما فيها الرئاسة والجيش والأمن والاقتصاد. كما يقنّن ويضبط إيقاع الهيمنة الجوّية الإسرائيلية، أيضاً.
دعم الموقف العربي
كذلك لوحظ تأييد موسكو في مجلس الأمن لموقف التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن، وما أصدرته من بيانات تدين القصف الحوثي للأعيان المدنية في السعودية والإمارات، وتصفه بالإرهاب. وتأمل دول الخليج أن تواصل روسيا دعمها السياسي والديبلوماسي لحل الأزمة اليمنية في إطار المرجعيات الدولية الثلاث: مخرجات الحوار الوطني اليمني، والمبادرة الخليجية، وقرارات مجلس الأمن.
وبالنسبة لمهدّدات الأمن القومي العربي، تتوقع دول الخليج وحلفاؤها العرب الاستفادة من علاقة موسكو الخاصة مع طهران لإقناعها بالتحوّل عن سياساتها المزعزعة للسلام والاستقرار في المنطقة، وقرصنتها لخطوط الملاحة البحرية، ودعمها للميليشيات الإرهابية، وتدخّلاتها في شؤون جيرانها. كما يُنتظر من روسيا، بحكم عضويتها في الاتفاق النووي، الضغط على إيران للقبول بشروط منظمة الطاقة النووية الدولية، والالتزام بتعهّداتها، والتخلي عن برامجها النووية والصاروخية المخالفة.
تأمين الغذاء
وعلى صعيد آخر، تنتظر الدول الخليجية والعربية التي شاركت في الحوار مع إدارة الرئيس بوتين، التزامها بما تعهّدت به من تأمين لسلاسل الإمداد بالقمح والشعير والأسمدة الزراعية وغيرها من المنتجات الغذائية والمعدنية، وعدم اشتراط الدفع بالروبل، أو وضع أي اشتراطات جديدة لم تنصّ عليها الاتفاقات القائمة، كما حدث مع الدول التي وضعتها موسكو على قائمة الدول المعادية.
هذه، بتصوّري، أبرز الملفات التي نوقشت مع الجانب الخليجي في جولة وزير الخارجية الروسي الأخيرة. ولعل النتائج تشير الى نجاحها. ومثال ذلك توافق دول تحالف أوبك+ على زيادة الإنتاج في شهري يوليو وأغسطس بنسبة 50%، حيث قُدّمت الزيادة المقرّرة لشهر سبتمبر. وإعلان موسكو بقاءها في سوريا، وتأمين أسطولها لمرور سفن الشحن التي تحمل المنتجات الأوكرانية في البحر الأسود، والوفاء بعقود شراء المنتجات الروسية، وترحيبها بالوساطة الخليجية مع أوكرانيا، ودعمها لمبادرة السلام السعودية في اليمن، وتمديد الهدنة لشهرين إضافيين.
الحياد الإيجابي الخليجي
مرة أخرى تثبت السياسة الخليجية الراشدة والمتوازنة نجاحها في كسب احترام جميع الأطراف والأقطاب، فقد أثنت روسيا والصين من جانب، وأميركا والاتحاد الأوروبي من جانب آخر، على اتفاق أوبك، وأشادوا بالدور الخليجي في الدفع بأطراف الصراع اليمني على طريق السلام. كما تسابق قادة العالم على زيارة الرياض للاجتماع بزعماء مجلس التعاون الخليجي وحلفائهم العرب.
الحياد الإيجابي الخليجي هو عنوان المرحلة الحالية، كما المقبلة. وهي استراتجية سيادية، مستقلة، تقوم على مرتكزات الثبات على المبدأ، والدفاع عن المصالح الوطنية والقومية، وعدم الانحياز تجاه أطراف الصراع الدولي. وعلى من لم يعجبه ذلك، وحاول وفشل في تغيير المعادلة الخليجية، أن يعيد حساباته، ويتأقلم مع الاستراتيجية الجديدة، فلا عودة عنها، ولا مناص من احترامها والتعامل بشروطها.
*كاتب سعودي
@KBATARFI