النهار

ماذا تريد إيران؟ وماذا نريد؟
الرئيس الإيراني حسن روحاني يحضر استعراضاً عسكرياً بمناسبة الذكرى 38 لاندلاع الحرب الإيرانية-العراقية، أيلول 2018 - "أ ف ب"
A+   A-
عندما تشعر بأن جميع من حولك في حالة حراك وتزاور وتلاقٍ، ولا أحد يتواصل معك أو يدعوك أو يطلعك على ما يجري، لا بدّ من أن تشعر بالعزلة والقلق. وعندما تلاحظ أن أصابعهم تشير إليك واسمك يتردّد بين حين وآخر، وقد يصل إليك أن أفعالك وأعمالك في قلب الحوار، والتصدّي لك على رأس أجندة الأعمال، فلا مناص من التحرّك... وبسرعة.
 
تحسّب طهران لجولة بن سلمان
يدرك ملالي طهران أن جولة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، وتحضيرات القمة القادمة مع الرئيس الأميركي، التي ستحضرها عشر من دول الجوار، وكل ما يشاع عن بناء حلف مؤسسي دائم، أو تحالف مؤقت، له هدف مشترك معلن: الاستعداد لتداعيات المواجهة العسكرية المحتملة بين إسرائيل وإيران، والتصدّي لأذرع طهران وميليشياتها في المنطقة، والردّ على برنامجها النووي والصاروخي.
 
على هذه الخلفية، نفسّر التحرّكات السياسية للتصالح مع السعودية وتركيا والإمارات ومصر، وجهود تحسين العلاقات مع العراق، والاستفادة منه وسيطاً مع البلاد العربية. ويتجاهل إدانة إسرائيل في عمليات الاغتيال والهجمات السبرانية والتفجيرات الغامضة لمواقع نووية وعسكرية داخل إيران، وتخفيف الاحتقان بين إسرائيل و"حزب الله" و"حماس"، وإزاحة العراقيل عن مسار التفاوض اللبناني الإسرائيلي بشأن المياه الإقليمية وحقول الغاز. وندرك سبب الموافقة على تمديد الهدنة في اليمن، والقبول بالعودة الى طاولة المفاوضات النووية المباشرة مع أميركا في الدوحة، رغم إعلان فشلها.
 
وساطة الكاظمي
ورغم أنه لم يصدر في البيان الرسمي لاجتماع رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، مع ولي العهد السعودي في جدة، في 25 يونيو (حزيران)، أي إشارة الى وساطة مع إيران، فإن التصريحات العراقية والإيرانية، قبل وبعد اجتماع الكاظمي مع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في اليوم التالي، ثم عودته الى السعودية للقاء ولي العهد تشير الى رغبة واضحة لتقريب وجهات النظر، وعقد جولة مشاورات سعودية – إيرانية سادسة في بغداد، بمستوى وزاري هذه المرة، لحل المشاكل العالقة.
 
العقدة هنا، هي في إصرار طهران على تجاهل أسباب الخلاف، والقفز الى المصالحة وإعادة فتح السفارات. فممّا رشح من الجولات السابقة، أن المفاوض الإيراني ما زال يعيش حالة الإنكار لمسؤوليته عما تفعله ميليشياته وحرسه الثوري، وسياساته المزعزعة للسلام والمثيرة للفتن والقلاقل، وإصراره على الاستمرار في لعب دور "الأب الروحي" و"المرجعية الولائية" لكل المسلمين، "المستضعفين في الأرض"، وخاصة الشيعة في بلاد العرب.
 
وفي الوقت الذي تتباهى فيه القيادة الإيرانية بتحكّمها وهيمنتها على خمس عواصم ومدن عربية، بغداد، دمشق، بيروت، غزة وصنعاء، وانتماء ميليشيات وأحزاب مسلحة، شيعية وسنية لها، وتعترف بدعمها بالمال والسلاح والتدريب والتوجيه، ترفض تحمّل مسؤولية جرائمها المحلية والعابرة للحدود، من قصف وإرهاب وتهريب بشر وسلاح ومخدرات، وغسل أموال.
 
مطالب إيران
وهكذا، عندما يطرح المفاوض السعودي على الطاولة هذه التجاوزات والتعديات، هذه السياسات والممارسات، يرد الإيراني بأن هذه قضايا جانبية لا صلة له بها، ولا صلاحية بيده لمناقشتها، وأن الملفات التي تعنيه تنحصر في العلاقات البينية، وأبرزها إعادة العلاقات السياسية والديبلوماسية والتجارية، وفتح السفارات والقنصليات، والاستثناء من اتفاقية منظمة التعاون الإسلامي المحدّدة لعدد الحجاج من كل دولة مسلمة نسبة لعدد السكان، والسماح لحجاجهم بالتظاهر السياسي في المشاعر المقدّسة.
 
ورداً على هواجس البرامج النووية والصاروخية وتصدير السلاح لميليشيات المنطقة والهجمات السبرانية والقرصنة البحرية، يردّ الإيرانيون بمطالبة دول الخليج العربي بإخراج القوات الأجنبية، وخفض ميزانية التسلح، وإلغاء اتفاقيات الدفاع المشترك، والاعتماد عليها لتأمين المنطقة وحمايتها!
 
كذلك يطالبون دول التحالف العربي بعدم دعم الحكومة اليمنية ومواجهة الانقلاب الحوثي، أو مواجهة هيمنتها في البلدان العربية، باللجوء الى "حزب الله" للتوسّط مع الحوثي لوقف هجماته على مدن السعودية والإمارات!
 
تجريب المجرّب
وعندما تفشل المباحثات، وتبقى حالة الخصومة على حالها، يضرب الإيرانيون كفاً بكف، ويبدون استغرابهم من عدم تجاوب السعوديين، ورفضهم ليد السلام الممدودة لهم، وإصرارهم على التصعيد والتعاون مع الأجانب بدلاً من التفاوض بحسن نيّة مع الأشقاء! أي إنهم يطبّقون المثل العربي "ضربني وبكى وسبقني واشتكى"!
 
لقد جرّب العالم التفاوض مع إيران على مدى أربعة عقود، ولا أعرف متى سيدرك حماقة "تجريب المجرّب"! لا يتفق العقائدي والشعوبي والطائفي مع المجتمع الأممي على قواعد مشتركة. فالدولة عنده ثورة، والميت حيّ، والمستقبل عودة. ولذلك فكل العهود والمواثيق التي يوقع عليها لا تساوي عنده قيمة حبرها، وكل الاتفاقيات والمنظمات الدولية التي يحمل عضويتها مجرّد منصّات عامّة للتبشير بفكره، ومظلة دولية لشرعنة نظامه، ونوادٍ لبناء التحالفات واستثمار العلاقات. مبدأه: ما عنده له، وما عندك قابل للتفاوض. الكذب عنده عقيدة، والنفاق ضرورة، والسياسة تجارة، والتقلّب شطارة.
 
المعادلات الصفرية
في الضعف يطلب "الثورجي" هدنة، وفي القوة ينقضها. إذا غلبته أسمعك ما يرضيك، وإذا غلبك أسمعك الحقيقة. يكذب ويكذب ويكذب حتى تصدّقه. ويناور ويداور حتى يقنعك. المفاوضات مجرد وسيلة للوصول الى غايته، لا لتحقيق غاية مشتركة. فالنصر إما أن يكون كاملاً له أو لا يكون. المعادلات عنده صفرية، فمكسبه يأتي على حساب مكسبك، ولا مجال لنصر مشترك، ولا مكسب للجميع.
 
وفي الحالة الإيرانية، فعقيدته تقوم على كراهيتك، ووحدة صفه على تفرّق صفك، ونجاته على زوالك. العقائدي يحكم السياسي، والاقتصادي، والعسكري. ومشروعه عودة أمجاد الماضي على حساب الحاضر. والانتقام من أعداء التاريخ على حساب أحفادهم وبلدانهم. ولا تتحقق عودة المخلص المنقذ إلا على أشلائهم ودمار ديارهم. لذلك لا يستجيب العقائدي إلا للقوة، ولا ينتهي الصراع معه إلا بكسر العظم.
 
شراكة أو مواجهة
ما الحلّ إذن؟ في تصوّري، إن الأجدى، والأقرب الى التحقيق، تشكيل كتلة إقليمية تجمع القوى الرئيسية في المنطقة، بشراكة دولية، يكون هدفها المحدد والمعلن تحقيق التكامل والتعاون بينها سياسياً وأمنياً واقتصادياً. ولعل الدول التي شملتها جولة الأمير محمد بن سلمان، وتشارك في القمة الخليجية - العربية مع بايدن، هي الأقرب الى العضوية.
 
على أن يبقى الباب مفتوحاً لإيران إذا تحققت معجزة وقرّرت التحوّل عن مسارها العقائدي، والانتقال من حالة الثورة الى الدولة، ومن الهدم الى البناء، ومن التعدّي الى التعاون. أما إذا أصرّت على مواصلة نهجها الفوضوي والهدام فيعمل الكيان الجديد على بناء تحالف عسكري أمني لتحقيق هدف محدّد: مواجهة السياسات والمخططات المهدّدة للأمن والسلم في المنطقة ومحاربة الإرهاب وداعميه. ويبدو لي أن هذا ما يجري العمل عليه، وهذا ما تعمل إيران على تفاديه.
 
 
*أستاذ في جامعة الفيصل
 
 
 
 
 

اقرأ في النهار Premium