عبود سمعو - شاعر سوري مقيم في بيروت
الليل في بيروت، سلّمٌ موسيقيّ صغير، يتنقّل بين نغماته عنكبوت صدئتْ شبكته، فانكمشَ على نفسه. نسمةٌ خريفيّة تؤرجحه، بين أمسِ وغَدٍ، من هديرٍ إلى صمتٍ، يأخذه موّالٌ وتجيءُ به أغنيتان.
أيّتها المدينة السّاهرة على أضواء "الليدّات"، قلبي كستناء لموقدكِ المشتعلِ بالرغبة والقلق.
فمي سكّين يلثم نجيل التردّد فيكِ، وعيني خطميّة بلونِ العتاب، احبسي في جفونها نحلةً، واسمعيني.
آزٌّ، بحركِ عند الغروبِ ليس سجّادة يمدّها الصوفيّ من آخر الأفقِ، وليس ابتهالا.
بل جدار عميق.
نرسمُ قاربا، قاربين، ثلاثة، وطفلة بجديلتن، نرسم شمسًا، نرسم قمرًا، خبزًا، نرسم بحرًا،
ثمّ مثل دمعةٍ على خدّ.
الرصيف دفتر للخطى، رأيتكِ أمسِ تركضين خلف ظلّ جوستينيان، وتصرخين في بقايا مدرسته القديمة، هل ينبغي للضحايا أن يُبعثوا من جديد قصّاصي أثر، بينما الجناة غربان تطير بأجنحة النوارس فوق الماء؟!
مثلما يجرحُ أُذُنَي السّاهدِ صوتُ الماء تحتَ عجلاتِ المركبات على الطريق السريعة، ومثلما ينقزُ ظبي في جرد، ومثلما يفركُ الضوء عيون البلابل وقتَ التزاوجِ، وقت الغناء، رأيتِني أمسِ أعدّ النجوم، أقرّبُّ سبابةً، وأشبك نجمتين، فتضحكين، كلّما عضّت غمامةٌ أنملة.
تهمسين، أراك استبدلت بالخوف صنفا آخرَ، خوف جديدٌ يلمعُ، إن لامستْ أُذُنيهِ نجوى بين غمامتين، فيغيظ معطفكَ الرهيف احتمالُ البللِ، وأنتَ كلّك يجزمُ لا مناص أنّ موتًا يهطلُ.
أوف، أوف، أوف تجرحُ حنجرةَ الثاوي في مسامات المدن المتعبة، يمنة ويسرى يلوي عنقه، يدرّب الحزنَ، كلبَ الحزنِ، على التقاط الفرح البعيد، ويبكي، فيردُّ الليلُ: "إيهِ".
لا غيوم هذه الليلة، القمرُ باردٌ وسريعٌ، يمرُّ فوق بيروتَ، النجومُ أكثر لمعانًا ممّا كانت عليه ليلة أمس. القمرُ باردٌ وسريعٌ كتحيّة الذاهبين إلى حتفهم. النجومُ أكثرُ لمعانا ممّا ستبدو عليه غدا، كعيون العائدين إلى أمسهم. النسمةُ الطريّة إبهامٌ يبلّله طَرَف لسان الفجر، صورةً صورةً، يقلّب أوراق الشجر.
على اسفلتٍ باردٍ تستلقي ذاكرة الغريب، تضع يدًا تحت خدّها الأيسر، تضمّ ساقيها، تقّرب ركبتين من بطن البارحة، وتهذي بأسماء العالقين في رحمها. الحنين حبلها السرّيّ يلتفُّ حول عنق الأمكنة. الأزقة أجنّة، تسمع نبضها من أول المنعطف إلى آخر منفاك، وتبتسم.
هو الفجرُ المغمّسُ بالنّدى، هو القلقُ الجميلُ، وانتحارُ الضوء، فوق شرفتكِ، هو شجرةُ الجمّيز، وقنابلُ الغاز، هتافُ الثائرين، والحائرين، وقصائدُ الشعراء، وأغنيةُ تدندنها الطريق إليكِ، تعالي الآن من أقصى الرّمادِ جمرةً، الصبح طفل يلثغ، وغدًا يصير نبيًّا.