باسكال فؤاد ضاهر- محامٍ - دكتور في الحقوق
بنى المجلس الدستوري تعليله لردّ الطعن في المادة 87 من قانون الموازنة على القول بأن هذه المادة قد عدّلت نص المادة 35 من قانون موازنة العام 2020 والتي تنص في فقرتها على الآتي:
"وإذا اقتضت الضرورة معادلة الليرة اللبنانية بأي عملة أجنبية بالنسبة لبدلات بعض الخدمات فيكون ذلك إلزامياً وفقاً للتسعيرة الرسمية التي يفرضها مصرف لبنان".
علماً أنّ النص المطعون فيه قد نصّ على:
و"إذا اقتضت الضرورة معادلة الليرة بأي عملة أجنبية بالنسبة لبدلات بعض الخدمات فيكون ذلك إلزامياً وفقاً للتسعيرة التي يحدّدها مصرف لبنان"،
وقد اعتبر المجلس الدستوري في تعليله ودفاعه عن ردّه الطعن في هذه المادة بأنّه "يعود للمشرّع أن يلغي قانوناً أو أن يعدّل في أحكامه من دون أن يشكّل ذلك مخالفةً للدستور أو أن يقع هذا العمل تحت رقابة المجلس الدستوري طالما أنّ هذا التعديل لم يمسّ بقاعدة دستورية أساسيّة أو حقّاً من الحقوق الدستورية الأساسية أو مبدأ من المبادئ ذات القيمة الدستورية"، وقد ذهب المجلس الدستوري أبعد من ذلك، معتبراً أنّ "الأمان التشريعي لا يشكّل بحدّ ذاته مبدأً دستورياً أو ذا قيمة دستورية[1]".
مما تقدم، ينضح السؤال حول مدى قانونية بناءات المجلس الدستوري السالفة الذكر،
في الحقيقة، لم يكن القرار على قدر التوقّعات لا سيما وأنّه صادر عن مجلس الحكماء في البلاد كما يُعرف عن المجالس الدستورية في العالم. علماً أنّنا كنّا نطمح إلى قراءة تعليل يروي ظمأ القحط الحاكم للمفاهيم المالية والإقتصادية في البلاد، ويعيد الدستورية إلى تلك التصرفات الشاذة والانحرافات المقصودة، الأمر الذي شَرّع ويُشرّع لمزيد من الابتعاد عن الحلول الخلاَّقة التي ترمي إلى تحقيق النهوض بالبلاد من كبوتها المُفتعلة وينحو بها إلى مصاف الدول المتطورة؛ لا سيما وأنّ هذا القرار قد منح صلاحية أساسية وجوهرية للمصرف المركزي[2] لا يحوزها قانوناً لأنه غير منتخب من قبل الشعب، إذ إنّها تتصل باستقرار أسس العيش الآني والمستقبلي للمواطن.
لما تقدّم، سنورد الثوابت الدستورية والقانونية في بنيان العطف الدستوري المساق في القرار موضوع التعليق والذي كان سيؤدي إلى إبطال نص المادة الرقم 87 من قانون الموازنة لعام 2022 لانعدام دستوريتها:
ألف: في إمكانية العطف الدستوري على أحكام الفقرة "واو" من مقدّمة الدستور اللبناني
لا يمكن الولوج إلى تفعيل الرقابة الدستورية على المادة 87 من قانون الموازنة لعام 2022 دون الارتكان إلى الفقرة "واو" من مقدمة الدستور اللبناني التي نصت على اعتبار أنّ "النظام الاقتصادي حرّ يكفل المبادرة الفردية والملكية الخاصة".
وبما أنّ القوانين المالية والمصرفية تتّحد في ذاتيّتها لتشكّل في كيانها وحدة متماسكة وبذلك فإنها تعبّر عن التوجّه الخاص بالدولة إن كانت ليبرالية حرة أو سواها؛
وبما أنّ دستور الجمهورية اللبنانية هو ليبرالي حرّ كما جرى بيانه، أي يعتمد على المبادرة الفردية المتّصلة اتصالاً وثيقاً بآلية إظهار سعر صرف العملة المعومة. وقد اعتمد القانون اللبناني سعر السوق الحرة سنداً لأحكام المادة /229/ من قانون النقد والتسليف. وبالتالي فإنّ سعر الصرف ليس محدداً ولا جامداً، مع التأكيد على أنّ التحديد المتّبع هو نقيض الليبرالية وإقتصاد السوق؛
وبما أنّ التلاعب بسعر العملة هو السبب الرئيسي في تدمير النظام الليبرالي وهذا ما أكد عليه الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بقوله :
Lénine aurait déclaré que la meilleure manière de détruire le système capitaliste est de s’attaquer à sa monnaie. […] Il avait raison. Il n’y a pas de manière plus subtile, plus sûre et plus discrète de renverser l’ordre existant de la société que de vicier sa monnaie. John Maynard Keynes
وبما أنه وبخلاف ما ذهب إليه قرار المجلس الدستوري، فإنّ النصوص القانونية المرعية الإجراء في الجمهورية اللبنانية تسلخ عن المركزي أية صلاحية لتحديد أو بيان سعر صرف العملة مقابل العملات الأجنبية و/أو تحديده عدداً من أسعار الصرف، لا سيما وأنّ القانون قد حصر هذه المهمّة ببورصة بيروت بما يسمّى ردهة البورصة وفق ما أقرّته المادتان /9/ و/10/ من المرسوم الإشتراعي الرقم 120 الصادر في العام 1983، وهذه النصوص قائمة وموجودة في هرم المشروعية، ما يوجب الارتكان إلى أحكامها في مطلق أي قرار، لا سيما حال كان صادراً عن المجلس الدستوري الذي لم يتعمّق بكلية هذه الأحكام، ما أبعد قراره عن الكيان المالي الحاكم للجمهورية لأن سعر الصرف يجب أن لا يكون صادراً إلا عبر عمليات تجري في ردهة البورصة، المكان الطبيعي الصالح لها؛ علماً أنّ هذا الوضع نشأ بعد انهيار اتفاقية بريتون وودز وأصبحت الدول بموجبه ملتزمةً قانوناً بتعويم عملاتها من خلال بيان حجمها في السوق.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الخلط الواقع في فهم حكم المادة /75/ المعطوفة على المادة /69/ من قانون النقد والتسليف التي سمحت للمصرف المركزي بالتدخّل في سوق القطع إنما بغية تأمين ثبات هذا السوق بالعمل به، كما أي شركة أخرى مسجلة في البورصة، بهدف التأثير في سعر الصرف للجم صعوده أو العكس. أي بمعنىً أوضح، أن يعمل في ردهة البورصة،[3] إنّما بالاتفاق مع وزير المالية، مشترياً أو بائعاً ذهباً أو عملات أجنبية مع مراعاة أحكام المادة /69/ التي وضعت قيوداً صارمة على هذا التدخل[4]، وتدخّله هذا يكون بهدف المحافظة على ثبات السعر الصرف المنوي استهدافه أو تحقيقه بالاتفاق مع الحكومة.
ومن هنا، يتجلّى بوضوح أنّ المشرع الدستوري قد أرسى ركائز ودعائم لحماية النظام الليبرالي الحر من خلال آلية عمل المصرف المركزي في السوق، إنما لم يمنحه أيّ حق في تحديد سعر الصرف وفق ما أوضحنا أعلاه، وذلك إن من خلال سعر النشرة اليومية المحددة منه بـ 1500 ل.ل.، أو من خلال منصّات غير قانونية، أو من خلال عمليات داخلية يُجريها مع المصارف.
باء: في إمكانية العطف الدستوري على أحكام الفقرتين "باء" و"جيم" من مقدمة الدستور اللبناني[5].
بما أنّ مقدمة الدستور اللبناني تتّصل بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تُعنى بحقوق الإنسان، وبالتالي أصبح إلالتزام الواقع على عاتق الدولة اللبنانية باحترام هذه المواثيق ذات الشأن مساقاً بحكم النص الدستوري المولج بحمايته المجلس الدستوري، والذي برأينا، كان يعود له أن يُعلي من شأن هذه الحقوق الدستورية للفرد من خلال وضعه حداً للتمادي في خرقها من قبل المشترع؛
وبما أنّ التضخم بالتلاعب بسعر العملة هو الآفة الأساسية التي بموجبها تخرق الحكومات هذه الحقوق المصانة دولياً والمساقة في بلادنا من جراء تعدد أسعار الصرف[6] وطبع العملة، والمعزّزة جميعها بانحرافات قانونية ومالية شاذة نابعة من تدخّل المصرف المركزي بموجب صلاحيات لا يحوزها قانوناً. وقد كان لمجلس شورى الدولة رأي فيها حين أصدر قراراً[7] أوقف بموجبه تنفيذ التعميم الرقم 151 لتناقضه مع كتلة المشروعية؛
وبما أنه مما يؤكد على علوّ شأن هذه الحقوق ما أورده الأستاذ: Sergio Pereira Leite[8] - في مقالٍ له تحت عنوان Les droits de l’homme et le FMI :
Les droits de l’homme et la stabilité macroéconomique sont loin d’être incompatibles. Ils jouent même ensemble un rôle crucial dans la lutte contre la pauvreté. En soutenant des politiques économiques saines et en encourageant un dialogue constructif dans la société civile, le FMI contribue à la défense des droits de l’homme.
وبما أنه وتأكيداً على أهمية هذا الحقوق، التزمت الدولة اللبنانية بحكم اتفاقية تأسيس صندوق النقد الدولي[9] على السعي إلى أن تقيم نظاماً اقتصادياً لا تترتّب عليه إضرابات عشوائية وأن تتجنّب التلاعب بأسعار الصرف، وتوجيه السياسة الاقتصادية والمالية نحو تعزيز النموّ الإقتصادي وأن تعمل على دعم الاستقرار بإرساء أوضاع إقتصادية ومالية منظّمة.
وبما أنّ هذا الإسناد كان سيسمح للمجلس بفرض رقابته على المادة موضوع التعليق من خلال عطف هذه المخالفة الدستورية على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والاجتماعية اللذين يملكان طبيعة إلزامية وغير مجتزأة، كما وتتّصل بنودهما اتصالاً وثيقاً باستدامة استقرار سعر الصرف الذي يشكّل في أبعاده العمود الفقري لكفالة ديمومة هذه الحقوق، مع التشديد على أنّ هذه الصكوك الدولية تُلزِم الحكومات بتحقيق الأمان الإقتصادي للفرد بترسيخ الميزانيات والجوانب الأخرى للسياسات الإقتصادية، لا سيما وأن هدف هذه المواثيق كان وما زال يرمي إلى تحرير الفرد من العوز والخوف وتحقيق الإستقرار في معيشته المتصلة بإستقرار سعر الصرف.
وعليه، ومن خلال هذا التعليق المقتضب القابل للتوسّع والتعمّق، يمسي قرار المجلس الدستوري واقعاً في غير موقعه السليم، لا سيما أنه كان باستطاعته فرض رقابته الدستورية على النص الذي يشرّع تعدّدية أسعار الصرف غير المشروعة والتي أدّت إلى إحكام التضخّم مع عنصر التهاون في طبع العملة الوطنية.
هوامش:
[1] علماً أن المجلس الدستوري قد اعتبر خلاف ذلك في عدد من قراراته منها: القرار الرقم 6/2014 تاريخ: 6/8/2014 – القرار الرقم: 20/2019 وقد ورد فيه ما حرفيته: "وبما أنّ الأمان التشريعي ركن أساسي في دولة القانون وعنصر أساسي في تحقيق الانتظام العام والاستقرار وبعث الطمأنينة في النفوس".
[2] حتى ولو كان التوصيف القانوني للمصرف المركزي هو سلطة عامة نقدية مستقلة - Autorite publique indépendante API. للتوسّع حول هذا الموضوع يرجى مراجعة أطروحتنا لنيل رسالة الدكتوراه تحت عنوان: رقابة القضاءين العدلي والإداري على قرارات حاكم المصرف المركزي وأجهزة الرقابة التابعة له – دراسة مقارنة – منشور في مكتبة الجامعة اللبنانية.
[3] من الممكن وبعد التطوّر في المعلوماتية أن تصبح ردهة البورصة منصة إلكترونية تعمل تحت رقابة وإشراف البورصة.
[4] نصت المادة 69 من قانون النقد والتسليف على الآتي: على المصرف أن يبقي في موجوداته أموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النقد اللبناني توازي (30 بالمئة) ثلاثين بالمئة على الأقل من قيمة النقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطلب، على أن لا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن (50 بالمئة) خمسين بالمئة من قيمة النقد المصدر. لا تؤخذ موجودات المصرف من النقد اللبناني بعين الاعتبار لحساب النسبتين المحددتين في الفقرة السابقة.
[5] نصت الفقرتان باء وجيم من مقدمة الدستور اللبناني على الآتي:
باء: لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها كما عضو مؤسس وعامل في منظّمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الانسان. وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقول والمجالات دون استثناء.
جيم: لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.
[6] مع العلم أنّ التصريح الصحافي لرئيس المجلس الدستوري لناحية موضوع تعدّد أسعار الصرف قد أتى متناقضاً مع مضمون القرار الصادر عنه والموقع منه.
[7] قرار مجلس شورى الدولة الإعدادي الرقم 213/2020- 2021 – المراجعة الرقم 24551/2021 المقدمة من الجهة المستدعية – المحامي الدكتور باسكال فؤاد ضاهر والمحامي شربل شبير والمحامية جيسيكا القصيفي ضد المستدعى ضده مصرف لبنان.
[8] Sous directeur du bureau européen du FMI
[9] اتفاقية تأسيس صندوق النقد، المادة الرابعة، الفقرات الأولى والثانية والثالثة منها.