أصبح من المتعارف عليه أن حقوق ومكتسبات المرأة الإيرانية تراجعت تراجعاً كبيراً بعد الثورة الإسلامية، وبعد أن طبق الخميني مفهومه الخاص لولاية الفقيه. مع أن الثورة الإسلامية انطلقت مع شعارات إنصاف المرأة وإعطائها حقوقاً تفوق تلك التي تحققت لها زمن الشاه.
المرأة الإيرانية، التي ساندت الثورة الإسلامية وساهمت في إنجاحها، تعرضت للخيانة باكراً. فقُلِّصت حرياتها وحقوقها مع الوقت وأقصيت عن المشاركة السياسية التي تمتعت بها أيام الشاه.
وبعد أن حققت المرأة بعض التقدّم في التساهل تجاه الحجاب والخروج إلى الحيّز العام خلال حكم الإصلاحيين، عاد التضييق وبلغ أقصاه مع استلام المتشدّد رئيسي الحكم، وهو المتّهم بأحكام الإعدام للسجناء السياسيين.
أشعلت سياسته التي تسبّبت بمقتل مهسا أميني، من قبل شرطة الأخلاق، غضب نساء إيران، وثورتهن. وسرعان ما غزا شعار "زَنّ زَنْدَكي آزادي"، الذي رفعنه ويعني "المرأة، الحياة والحرية"، الكوكب وتردّدت أصداؤه في معظم عواصم العالم.
تحوّلت رسوم الكاريكاتور التي تمثّل خلع النساء للحجاب ورفضهن لتسلط رجال الدين إلى مصدر إلهام لمختلف الأعمال الفنية. وقصّت العديد من النساء خصلات من شعرهن أمام الكاميرات مساندة لثورة الشابات والشبان من أجيال ما بعد الثورة الإسلامية، التي لا تفهم الخضوع لمثل هذا الحكم المتحجّر الذي يعيش خارج الزمن.
صارت مهسا أميني أيقونة عالمية للمطالبة بحق المرأة بالحياة والحرية. على غرار شعار الستينيات "Love & Peace"، الذي شكّل "باراديغم" الشباب الرافض للعنف والحروب حينها. افتتحت ثورة الإيرانيات زمناً ثورياً جديداً سيكرس حرية المرأة وحقوقها محوراً للثورات المقبلة. إنه عصر المرأة والحريات، وهو ما حمل، أحمد بيضون، لاعتبار شعار "زن زندكي آزادي" ثالوثاً على طراز ثالوث الثورةِ الفرنسيّةِ "حرّيّة مُساواة إخاء".
يعيد هذا الأمر إلى الذهن موقف النساء اللبنانيات اللواتي كن يتقدمن المظاهرات بشجاعة في ثورة 17 تشرين لحماية الشباب المستهدفين بالعنف. وبينما أخمدت ثورة اللبنانيين لتشابك الأمور في بلد الأرز، تحوّل القتل على يد شرطة الأخلاق في إيران إلى صاعق أشعل ثورة عارمة لا يبدو أنها ستتوقف. لأن المسألة ليست مسألة حجاب فقط، بل هي قضية شعب يحتله نظام فاشي وسلطة قهر بوليسية تتخذ من الدين درعاً لها، فيزعم قداسة لمرشده ووكالة من الله! نظام سلب الإيرانيين أبسط حقوقهم الأساسية، ولم يقدّم لشعبه ولشعوب المنطقة التي اعتدى عليها سوى البؤس والانهيار، تحت شعار تصدير الثورة!
وفي حين نجحت حتى التلميذات الصغيرات في الاستمرار بإعلاء أصواتهن في مظاهرات واحتجاجات مستمرة، وهنّ مهدّدات مع إخوانهن بالقتل والإعدام، كانت المرأة، في بعض البلدان العربية، تتعرض لموجة قتل (مصر والجزائر)، من قبل "العرسان المرفوضين". وسبقت ذلك موجة جرائم الشرف وقتل النساء التي درجت في الأردن لفترة. وفيما بينهما عرف لبنان موجة قتل النساء والزوجات في خضم الفوضى، وتصاعد نسبة الجريمة بشكل عام. هذا حال بلدان تعاني من جبال من المشاكل المتراكمة وترد عليها من باب ثقافتها السائدة: "ثقافة العنف" ودونية النساء.
الجميع يتفق عموماً على أن المرأة الإيرانية تتمتع بمكانة في المجتمع وبقوة الشخصية وبنفوذ قوي في الأسرة. قد يحثنا ذلك على البحث في جذور هذه الوضعية. سادت في إيران، قبل الإسلام، الديانة الزرادشتية. وهناك شبه إجماع بين الباحثين على أن مكانة المرأة في تلك الديانة كانت عالية وتتمتع بالاحترام.
كما يؤكد البعض أنها تمتعت بالمساواة أحياناً. يورد الشيخ، توفيق الحسيني، في مؤلفه عن الزرادشتية، أن الحكاية تقول إن امرأة ملك فارس، عند ظهور زرادشت، آزرته وساعدته على بث دعوته في إيران. وهذا كان سبب احترامها ومكانتها بالنسبة للزرادشتية.
ربما لم تتمتع المرأة دائماً بتلك المكانة في تلك العصور، لكن من الملاحظ أن مكانة المرأة عند الأكراد أيضاً، الذين كانوا يعتنقون الزرادشتية قبل الإسلام، أفضل مما هي عليه في البلاد العربية عموماً. والمرأة الكردية تترأس الأحزاب وتقاتل، فلا ننسى دور فرقة المقاتلات الكرديات في محاربة داعش التي أثارت إعجاب العالم. ما يعرّض النساء الكرديات للاغتيال كما حصل لـ (ناكيهان اكارسال) مع رفيقتين لها. وبالمناسبة، أخبرتني إحدى المناضلات الكرديات التي تعيش في لبنان، أن أول من رفع شعار "زَنّ زَنْدَكي آزادي" كان، عبد الله أوجلان، في مطلع السبعينيات.
كما أن أكثر ما لفت نظري في الشرق الأقصى، عندما زرت المعابد في إندونيسيا في العام 1999، كان وضع تماثيل الملك والملكة التقليديين، بشكل متجاور دائماً ومتساو في المكانة، وأينما ذهبت. وهذا ما لا يمكن تخيّله في البلاد العربية. وجميعنا نعرف أن النساء في الهند وباكستان وسريلانكا تبوأن مناصب القيادة في العقود الأخيرة. بينما في تاريخنا ليس لدينا سوى نموذج شجرة الدر التي حكمت لفترة ثمانين يوماً ثم سلمت الحكم لزوجها.
ومن المعروف أن المرأة العربية تشارك في جميع الثورات، لكن معظم الأحيان كرديف أو مساعد ثانوي، سرعان ما يتم الاستغناء عن خدماتها. حصل ذلك مع المرأة الفلسطينية ومن قبلها مع المرأة الجزائرية. في مصر استخدم سلاح العنف والتحرش الجنسيين لقمعها خلال ثورة 25 يناير. كما نشرت "الحرة" مؤخراً تحقيقاً بعنوان: بسبب "العرض والشرف".. أكثر من نصف نساء لبنان لا يبلّغن عن الاعتداءات الجنسية.
أذكر أننا كلما أشرنا إلى وضعية النساء الدونية في العالم العربي والإسلامي، جوبهنا بمقولة أن الإسلام أنصف المرأة فمنع وأد البنات، وسمح بتوريثها! لكن السؤال هل حقاً هذا هو عنوان التقدّم الآن؟ السماح بتوريثهن (النصف فقط) ومنع قتلهن؟ أو معاملتهن كجوهرة، على حد ما يزعمون؟ فالمرأة في مجتمعاتنا يطلق عليها "حرمة" وهي "حرم فلان". والحرم له معنى المنع والنهي، ما يستوجب تخبئتها وتقييدها.
أذكر مرة أثناء محاضرة لي عن العلاقة بين الجنسين، أن شاباً، خانه النقاش المنطقي، صرخ في وجهي: على كل حال النساء ناقصات عقل. إنه قول شائع وممارس في ثقافتنا ضد النساء.
هزئت صبية من فكرة الشاب عن نقص عقول النساء في تلك الندوة، فذكرته بقوانين الوراثة البيولوجية التي تقول إن الطفل يأخذ موروثاته "Gênes" عن كلا الوالدين مناصفة عن كل واحد منهما، فإذا صحت نظرية الوراثة تلك، ولم تتعارض مع تشريعاتنا الدينية!! يكون الطفل الصغير قد أخذ نصف عقل عن والده وربع عقل عن والدته، فيصبح بثلاثة أرباع العقل!.
أعتقد أن على هكذا مجتمعات الاعتراف بواقع اضطهاد النساء ومواجهة هذه الثقافة بجدية وفتح باب الإصلاح الديني والاجتهاد وليس التهرب، على ما يرى بعض المراجع الدينية "التقدمية" من أن "مشكلة المرأة مشكلة مستوردة لإفساد الأمة، وهي غير موجودة أصلاً، وإنها دخلت عن طريق الفكر الغربي".
ما تجدر ملاحظته أن مجتمعاتنا خضعت في المرحلة الأخيرة، لاتجاهين متعارضين في ما يتعلق بالنساء وبالإسلام السياسي. فبينما كانت بعض المجتمعات العربية تتجه نحو التشدد والتعصب الإسلامي، كما في مصر والسودان والأردن وسوريا، كانت السعودية المتهمة بتصدير الوهابية، تعرف تحولاً وانفتاحاً غير مسبوقين. فلقد تنبهت السعودية أن تقدّم المنطقة لا يمكن أن يتم إلا بمواجهة الأصوليات وبتحرير طاقات الشابات والشبان ومنحهم الحريات الضرورية لذلك.
وفي الوقت الذي تكفّ فيه السعودية سلطة المطوعين وتسمح لشبانها وشاباتها بالاحتفال بالميلاد ورأس السنة وبالغناء والرقص، تتشدّد إيران تجاه شعبها وتسجن وتعتقل وتعدم الشبان والشابات الذين يعترضون سلمياً على سياسات النظام وقمعه وسلبه حقوقهم. والعالم يتأخر في ردود فعله المناسبة والضرورية لمساندة الشعب الإيراني.