زيارة وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، لبغداد، الخميس الماضي، أثارت التفاؤل مرة أخرى حول العلاقات السعودية والخليجية مع العراق. فبعد عقود من القطيعة، نتيجة لاحتلال صدام حسين للكويت، ثم تعاقب حكومات موالية لإيران على السلطة، بعد إسقاط النظام البعثي على يد الغازي الأميركي، أعيد افتتاح السفارة السعودية في بغداد عام 2015، وتوالت الزيارات الرسمية مع الرياض.
قمم واتفاقات
وفي السنوات الثلاث الأخيرة، خاصة في عهد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، عقدت قمم سعودية عراقية، ووقعت اتفاقيات هامة، من بينها تشكيل مجلس التنسيق الاعلى، وفتح الباب للاستثمارات السعودية المليارية، السيادية والخاصة، مع حمايتها بقانون، يناقش حالياً في البرلمان العراقي، وتطوير منفذ عرعر البري، ليتضاعف عدد ضيوف الرحمن والزوار من ألف عراقي يومياً الى خمسة آلاف، وينشط الشحن البري المباشر للمنتجات التجارية والزراعية، مع السماح بالاستفادة من المواهب العراقية في سوق العمل السعودي.
وعلى الصعيد الإقليمي، فقد تم الاتفاق على ضم العراق الى شبكة الكهرباء والسكك الحديد والطرق السريعة لدول مجلس التعاون الخليجي، مع الأردن ومصر. ورفع مستوى التعاون السياسي والامني بين هذه الدول الى مستوى غير مشهود في الأعوام الثلاثين الماضية. وشارك العراق أشقاءه الخليجيين في أوبك وأوبك بلاس لإعادة الاستقرار الى سوق الطاقة الدولي، والحفاظ على أسعار عادلة للنفط. كما عمل على تخفيف حدة الخلاف في المنطقة، وقدّم مبادرات سلام، واستضاف اجتماعات سعودية إيرانية.
أمن الطاقة
الأمن الخليجي معادلة صعبة، حرجة، وحساسة. وسرّ ذلك أن المنطقة تمتلك أكبر احتياطات نفط وغاز في العالم، وتقع على تقاطع طرق استراتيجية، جوية وبحرية وبرية، وتحيط بها نيران الحروب والصراعات. وأي شرارة طائشة قد تتسبب بحرمان العالم من طاقة الحياة والنموّ وتقوده الى كساد اقتصادي هائل، وتدفعه الى تدخلات ومواجهات قد تنذر بحرب عالمية ثالثة.
وبناءً على ذلك، فإن مصلحة العالم، لا العرب فقط، وسكان المنطقة، أن يتوافق المجتمع الأممي على حماية هذه المنطقة من الرهانات الطائشة، والأحلام التوسعية، والسلوكيات الإرهابية. ومن المصلحة أن تُقطع الأيدي التي تعبث بأمن الإقليم وتغامر بوفاقه وتلعب على أوتاره الدينية والمذهبية والعرقية. وأيّ توافق بين السكان، عرباً كانوا أو عجماً، ينبغي أن يحظى بالتأييد والدعم، حتى من الذين سعوا في الماضي الى إثارة الخلافات وصناعة العفاريت والنفخ في نار الصراعات، لخدمة مصالحهم وفقاً للقاعدة الاستعمارية "فرّق تسد".
إيران وإسرائيل
الطرف الوحيد غير السعيد بهذه التوافقات العربية، هو أعداء العرب، شرقاً وغرباً، وممثلوهم في المنطقة إيران وإسرائيل. فمليشيات طهران في الهلال الخصيب دأبت على إثارة الفتن الطائفية والعقائدية، وتقسيم المجتمع العربي الى موالٍ وغير موالٍ لإيران. وتزويد الطرف الأول بالسلاح والمال للانتصار على الطرف الثاني والهيمنة على الدول وصناعة القرار. رأينا ذلك في خمسة بلدان عربية، العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن. ولو نجحت بقية المخطط لرأينا ذات السيناريو في السودان والبحرين ومصر والأردن، وصولاً الى الصومال وموريتانيا وجزر القمر.
وغرباً، كانت إسرائيل ولا تزال، تمارس سياسة التفريق بين الأخ وأخيه، وتحرّض العالم ضدّهما، وتسعى لإثارة ذات الفتن من خلال مواليها في النخب الثقافية والسياسية، وعالم المال والأعمال. ورغم الخلاف حول الملف النووي، ومحاذاة الحدود الإسرائيلية، والدعم الذي يتجاوز "المتفق عليه" للميليشيات اللبنانية والفلسطينية، تتفق تل أبيب وطهران مع المخطط الغربي للسيطرة على العرب. ولا ننسى هنا فضيحة "إيران غيت" التي كشفت الدعم الإسرائيلي الاستخباري والعسكري المباشر لإيران في حربها مع العراق، ووجود عشرات القنوات الإيرانية الموجهة للعرب على الأقمار الصناعية الإسرائيلية، انطلاقاً من محطة حيفا.
سرقة وتخريب
وفي هذا الإطار نفهم عملية التخريب المتعمد لشبكة الربط الكهربائي بين السعودية والعراق. فطهران تزوّد جارتها بالطاقة الكهربائية بأضعاف سعرها الطبيعي، وتعطيها وتمنعها حينما وكيفما تشاء. كما تمارس اللعبة نفسها في إمدادات المياه من الأنهر والمصبّات التي تغذي شط العرب والبصرة، وتتحكم في إمدادات الغاز الطبيعي التي تعمل عليها مولدات الكهرباء في المدن العراقية.
ولنفس الأسباب يضيق الخناق على الاستثمارات السعودية والخليجية وتُسحب الدولارات من المصارف العراقية ويقتحم المنافذ الحدودية ملايين الزوار الايرانيين بدون تأشيرات دخول أو تقديم هويّة، وتُمنح الجنسيات الرسمية والمزوّرة لعشرات الآلاف من المستوطنين الإيرانيين. ولا ننسى سرقة النفط العراقي التي أشارت إليها مصادر إيرانية عدة، ليس أولها ولا آخرها، السيدة فائزة رفسنجاني، عضوة البرلمان الإيراني سابقاً، وابنة الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني.
تلغيم التقارب
ولذا فإن مهمة أيّ حكومة عراقية تسعى للتقارب مع جيرانها العرب ستكون ملغمة من الداخل، ومهددة من الجار المهيمن. ولعل احتجاجات الإطار التنسيقي الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على أوجه التعاون مع دول الخليج حتى في مجال الرياضة والتجارة والسياحة، تؤكد هذا الموقف.
ومثال ذلك الضجة العالية التي أثارتها إيران وعملاؤها في العراق ضد بطولة (خليجي 25)، وخاصة تسمية "الخليج العربي". ورغم أن هذه التسمية مرت بسلام على كل الدورات السابقة، ففي عرف هؤلاء إن العراق ليس كغيره، وما يُسكت عنه في بقية بلاد العرب، لا يمكن السكوت عنه في "محميّة إيرانية" تتبع حكماً لولاية الولي الفقيه في طهران.
حماسة الشعوب
وفي نفس الإطار نفهم الحماسة الشعبية لمقدم المواطن الخليجي، والترحيب الحار بالجماهير الخليجية، وخاصة السعودية التي تربطها بالعراق روابط النسب والثقافة والجوار. كما نفهم في نفس السياق الترحيب السياسي من القادة العراقيين العرب مثل مقتدى الصدر، وشيوخ القبائل والعشائر العربية، سنة وشيعة. فالعراق يبقى عربياً رغم محاولات الملالي على مدى عشرين عاماً، ويبقى جزءاً من منظومة الخليج العربي، مهما اعترض ملالي وموالي إيران.
أما الحكومات العراقية، فقد جرّبت المرّ الإيراني وعانت من تدخلات طهران وقم ومشهد وهيمنتها، ووجدت نفسها، مهما كان ولاؤها السياسي، أمام أمرين: إما أن تنجح في إنقاذ سفينة البلاد من الغرق أو تقبل بأنشوطة النجاة من القريب والبعيد، والأقربون أولى. وإما أن توازن علاقاتها مع إيران وغيرها فتحافظ على علاقاتها الدولية ومصالحها الذاتية، أو أن تستسلم للمغناطيس الفارسي وتدير ظهرها لغيره وتخسر بذلك سيادتها واقتصادها ومآلاتها المستقبلية.
يبدو أن الخيار الأصحّ جلياً إلا لمن حجبت رؤيته ورأيه رايات إيران.
* أستاذ في جامعة الفيصل.
@kbatarfi