في عام 2016، كنت قد أنهيت للتو كتابي الذي سردتُ فيه تجربة عقد من الزمن تقريبًا عشتها في عاصمة المملكة المتحدة، لندن. وقد اختتمت كتابي مُعتبرًا أن الكاتب الإنكليزي صمويل جونسون، الذي عاش في القرن الثامن عشر، كان مُحقًا في قوله إنه "عندما يتعب شخص ما من لندن، يكون قد تعب من الحياة؛ إذ يوجد في لندن كلّ ما يمكن للحياة أن تُقدّمه".
كان ذلك واقع الحال آنذاك، أمّا اليوم، بعد سبع سنوات من تصويتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، فإن لندن والمملكة المتحدة تبدوان هما المتعبتان.
بتنا نعي الآن أن مُعظم التصريحات التي أُدلي بها خلال الحملة الداعمة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كانت مبنيّة على أكاذيب، وأن مُعظم الذين صوّتوا لصالح هذه الخطوة يشعرون بالندم. وقد أظهرت آخر استطلاعات الرأي أن 33 في المئة فقط من الشعب البريطاني يعتقدون بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي كان قرارًا صائبًا، بينما يرى 55 في المئة منهم أنه كان خطأً كارثيًا.
وبالنظر إلى ما حصل منذ استفتاء عام 2016، من يُمكنه لومهم على ذلك؟ صحيح أن جائحة كوفيد-19 والحرب في أوكرانيا قد أضرّتا بالاقتصاد البريطاني، إلّا أن هذه الأحداث أثّرت على كافّة البلدان الأخرى أيضًا. وفي حين أن هذه البلدان قد تعافت إلى حدّ كبير، فإن توقّعات منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي (OECD) تُشير إلى أن أداء الاقتصاد البريطاني سيكون الأسوأ بين اقتصادات مجموعة السبع خلال العامين المقبلين. كما توجّه كبير الاقتصاديين في بنك إنكلترا إلى البريطانيين الشهر الماضي مُعتبرًا أنه سيتعيّن عليهم ببساطة تقبّل فكرة أنهم باتوا أفقر ممّا كانوا عليه من قبل.
وفي الوقت نفسه، لم يُساعد تغيّر الأشخاص الذين تولّوا منصب رئاسة الوزراء بشكل مُتكرّر على تعزيز الاستقرار السياسي الداخلي. فتيريزا ماي استقالت عام 2019، بعد أن فشلت في تنفيذ الإجراءات اللازمة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واستُبدلت ببوريس جونسون. وبعد ثلاث سنوات مثيرة للجدل وفضيحة "بارتيغيت"، استقال جونسون، مُفسحًا الطريق أمام ليز تراس، التي لم تُمضِ في منصبها إلّا 45 يومًا لحسن الحظّ. كانت فترة تولّي تراس هذا المنصب هي الأقصر في التاريخ السياسي لبريطانيا، وتمّت مقارنتها بفترة صلاحية الخسّ في السوبرماركت. وقد تمكّن رئيس الوزراء البريطاني الحالي ريشي سوناك من إعادة الهدوء على الأقلّ، إلّا أن نتائج الانتخابات المحلية التي أجريت يوم الخميس تُشير إلى احتمال دفعه إلى الاستقالة عند إقامة الانتخابات العامة المقبلة، أي في شهر تشرين الأول من عام 2024.
أما دوليًا، فولّت أيّام الإمبراطورية البريطانية بالطبع، وبتنا نرى بعض دول الكومنولث (بديل الإمبراطورية) تقاوم بشكل متزايد فكرة أن يكون رئيس دولتها أجنبيًا، خصوصًا أوستراليا وجزر الكاريبي. ويبدو أن "العلاقات المميّزة" مع الولايات المتحدة، التي كثيرًا ما يتمّ التباهي بها، تعتمد على مزاج الرئيس الأميركي. ومنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبحت دول كثيرة تنظر إليها على أنها جزيرة منعزلة موجودة قبالة السواحل الأوروبية.
إذا ما شعرتم بأن كلّ ما قلته يدعو إلى التشاؤم والكآبة... فأنتم محقّون. ولكن لا داعي لأن يكون هذا واقع الحال. فمع تجمّع قادة العالم في لندن يوم السبت لحضور حفل تتويج الملك تشارلز الثالث، هل يمكن أن يكون لدى الملك الجديد ما يلزم من الصفات من أجل أن (باستخدام عبارة مُستعارة) يُعيد لبريطانيا عظمتها؟
يبدو أن الشعب البريطاني يعتقد ذلك، إذ في الحين الذي تميل فيه نسب تأييد معظم القادة السياسيين إلى التراجع كلّما طالت فترة بقائهم في مناصبهم، تشهد نسبة تأييد الملك تشارلز ارتفاعًا. فقد أظهر استطلاع رأي أجري في شهر آذار أن 39 في المئة من الشعب البريطاني يعتقدون بأنه سيكون ملكًا جيّدًا. وعاد وأظهر الاستطلاع نفسه هذا الأسبوع أن هذه النسبة قد ارتفعت إلى 62 في المئة.
وفي وقت تشهد البلاد اضطرابًا في السياسات الداخلية، ما من وقت أنسب لتستخدم ورقتها الرابحة: أي القوة الناعمة والتاريخ والتقاليد، عناصر تتمثّل كلّها في ملك فعّال ومحبوب شعبيًا.
قلّة هم الأشخاص الذين يعرفون عن "العلامات التجارية" الوطنية أكثر من سيمون أنهولت المعروف بكونه الجهة المرجعية الدولية الرائدة في مجال سمعة البلدان. أنهولت شخص واضح وصريح. وفي مقابلة أجراها مع صحيفة "عرب نيوز" في شهر تشرين الثاني الماضي، قال هولت إن وجود نظام ملكيّ فعّال يُعطي أموال دافعي الضرائب قيمةً جيّدةً. وشرح قائلًا: "عائد وجود هذه الأنظمة بالنسبة إلى سمعة البلاد من حيث قيمة العلامة التجارية البحت يقدّر بالمليارات. الناس يحبّون العائلات الملكية، خصوصًا أولئك الذين يعيشون في بلدان أنظمتها ليست ملكيّة. فمن دون العائلة الملكيّة، لما حظيت المملكة المتحدة بهذا القدر من الاهتمام".
كيف يمكن للملك تشارلز أن يُحدث فرقًا إذن؟
أولًا، لطالما كان شغوفًا إزاء حماية البيئة. على الرغم من قصر الفترة التي أمضتها في منصبها، نجحت ليز تراس في الحؤول دون مشاركة الملك الجديد في مؤتمر المناخ (COP27) الذي أقيم في مصر في شهر تشرين الثاني. وكانت هذه الخطوة، كما كتبت آنذاك، تفتقر إلى الحكمة. ويشكّل مؤتمر المناخ (COP28)، الذي سيُقام في دبي في نهاية هذا عام، فرصةً لتصويب هذا الخطأ من خلال مشاركة الملك الجديد فيه، كما أنه لا يجب أن يقف عند هذا الحدّ. فمبادرتَي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر تُشكّلان فرصتين أخريين ليسخّر الملك مؤهلاته البيئية والعلاقات الدائمة، التي بُنيت مع دول الشرق الأوسط، عندما كان وريث العرش، في خدمة مصلحة بريطانيا.
وتُعتبر إقامة علاقات أوسع مع الخليج خطوةً واعدةً أيضًا. فكما قال الخبير في مجال السياسات التجارية الأوروبية والبريطانية بول ميكغرايد، خلال مقابلة أجراها مع صحيفة "عرب نيوز" في شهر كانون الثاني، في حين أن بريطانيا واجهت صعوبةً، منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، في التوصّل إلى اتفاقات تجارية مع بلدان العالم، بقيت أبواب دول مجلس التعاون الخليجي مفتوحةً. وشرح قائلًا: "باتت الدول الخليجية أهمّ من أيّ وقت مضى، لا في ما خصّ مجال الطاقة فحسب بل بفضل الأسواق التي تُمثّلها والاستثمارات والشراكات التي تسعى لإقامتها أيضًا".
وبعد أن أدرك أخيرًا الأهميّة المتزايدة لدول مجلس التعاون الخليجي، قام الاتحاد الأوروبي بتعيين لويجي دي مايو كأول مبعوث خاصّ له إلى الدول الخليجية. ومع فائق احترامي لوزير الخارجية الإيطالي السابق، إلّا أن الملك تشارلز قادر على تحقيق نتيجة أفضل لبريطانيا بمنتهى السهولة.
وكما قال سيمون أنهولت: "تُظهر البيانات بوضوح أن السبب الأولّ الذي يدفع الناس إلى تقدير بلد ما هو اعتقادهم أنه يقدّم شيئًا ما للبشرية والكوكب". ومن يمكنه أن يجسّد هذا الدور لبلده أكثر من الملك تشارلز؟!