زوجتي طبيبة، لم يشغلها تخصّصها الدقيق عن متابعة الشأن العام. وعندما أبلغتها بأنني "أذاكر" استعدادًا لكتابة هذا المقال في كلّ ما يخصّ قمة المناخ في الشرق الأوسط، وقمة مبادرتي السعودية الخضراء والشرق الأوسط الأخضر، بدأت "تذاكر" كعادتها لعلّها تساعدني في معلومة أو تنبهني الى ما فاتني.
فوجئت بها تعود بعد أقلّ من ساعة لتبدي حيرتها وضيقها من غموض المصطلحات العلمية والعناوين الفضفاضة. لم ألمها، فأنا أيضًا أجد صعوبة في مواكبة بعض شروحاتها في الشأن الطبيّ، وتضطرّ إلى تبسيطها بلغة لا يفهمها غير المتخصّص.
طلبت مهلة ساعتين، أراجع فيها ملفّات المناخ والمبادرات، فـأعطتني ساعة، ودار بيننا هذا الحوار، الذي أرجو من خلال نشره المساهمة في نشر الوعي عند مساحة أوسع من القرّاء غير المتخصّصين، أو المتابعين.
حكاية القضية
- لماذا هذا التوتّر والزخم والاهتمام الزائد بشأن المناخ؟ هل كوكب الأرض فعلًا في خطر؟ وهل تمكّنت المؤتمرات والقمم والبحوث خلال عشرات السنين من تخفيض هذا الخطر؟ أم أنّها عجلة تدور حول نفسها، وقضية، كالقضية الفلسطينية، يزايد عليها المزايدون، ويتاجر المتاجرون، ولا نخرج منها، نحن سكان العالم، إلّا بإهدار الوقت والمال والصداع النصفيّ؟
المشكلة حقيقية ولكنها حمالة أوجه. وكما هي طبيعة البشر، فكل طرف ينظر اليها بمنظار مصلحته، ويسعى الى حلّها في إطار فهمه لها. وبعد فصل دراسي كامل في جامعة "أوريقون" الأميركية حول المشكلة، توصلنا الى أنّ القضية تمّ اختطافها من قبل أصحاب المصالح في الغرب، حكومات وشركات، خاصة بعد صعود أسعار النفط نتيجة لمقاطعة الدول الداعمة لإسرائيل، بعد حرب رمضان 1973. فمن سعر متدنّ لا يتجاوز بضعة دولارات، استمرّ عقودًا، بدون أن يواكب معدّلات التضخّم العالمي، إلى أربعين دولارًا في نهاية العقد السبعينيّ.
هذه الصدمة غير المتوقعة لسلعة كان العالم يعتبرها مضمونة الوفرة والسعر، دفعت المستهلك في الدول الصناعية الى البحث عن البدائل، ومنها الطاقة النووية والعودة الى الاستثمار في الفحم، وهي منتجات أخطر بكثير، ولكنها مضمونة ومتوافرة. واستخراج النفط الصخري، وهو نفط محدود الكميات متوفر في أوعية صخرية متباعدة، وليس في حوض كبير واحد، ويتمّ الوصول اليها بعمليات حفر وضخّ معقدة، وبالتالي مكلفة.
سياسة وقوانين
وفي المقابل، وإرضاء للأحزاب الخضراء وناشطي البيئة، والناخبين، قامت الحكومات بدعم وتمويل وتشجيع البحث العلمي في الطاقة المتجدّدة والمستدامة، كالطاقة الشمسية والنهرية والمروحية، والهيدروجين الأخضر.
كما سُنّت قوانين لمكافحة التصحّر، وقطع الأشجار، وتحويل الغابات الى مراع، والصيد الجائر وتلوّث البحار، وتخفيض البصمة الكربونية للمصانع واستخدام السيارات الكهربائية. وتعهّدت الدول، وخاصة الصناعية، كالصين والهند وأميركا وأوروبا وروسيا، بتخفيض الانبعاثات الكربونية بنسب معينة، وصولًا الى الصفرية المطلقة منتصف القرن الحالي، وتعويض الدول المتضررة في العالم الثالث.
تسيّس وتربح
الهدف من هذا كله ألّا يتجاوز ارتفاع درجات الحرارة في الكرة الأرضية عن درجة ونصف في العام، لأنّ أيّ زيادة ستتسبّب في صيف أطول وأسخن، وجفاف وتصحّر، وفيضانات وكوارث طبيعية. ومع الزيادة السكانية في العالم ستؤدي تلك التحوّلات الى تهديد خطير للأمن الغذائي والمائي والصحي والبيئي، وبالتالي الحياة البشرية.
ولكن في المقابل، نعم، يجري تسييس القضية، والربح منها. ونعم يلقي كل طرف بالمسؤولية على الآخرين، كما فعل الغرب بتحميل الدول المنتجة للنفط مسؤولية تلويث الكون، وبالتالي المطالبة بتعويض المتضررين. ونعم، استخدم الساسة الشعارات لكسب الأصوات ولم ينفّذوا أكثر وعودهم، خاصّة عندما تصطدم بالمصالح، مثلما فعلوا عندما دفنوا النووي في أراضي بلدان العالم الثالث ومياهها الإقليمية، برشوة القادة. أو عندما رفعوا انتاج الفحم مؤخرًا لتعويض نقص الغاز الروسي.
علاقة السعودية
وما الجديد في المبادرات السعودية وماهي علاقتها بقضايا المناخ؟ وما الجدوى من انفاقنا مليارات الدولارات على التشجير في بلادنا، وعشرين دولة أخرى في المنطقة؟
رغم أننا لم نتضرّر حتى الآن من الاحتباس الحراري، كما تضرّرت دول النصف الشمالي من الكرة الأرضية، كما رأينا هذا العام في صيف أوروبا وأميركا، إلّا أننا جزء من هذا العالم، وما يصيبه يصيبنا. ومع أننا في دائرة الاتهام، ظلمًا وتعسّفًا، لمجرّد أننا ننتج النفط، وأنّهم يتناسون أنهم أكثر المستهلكين له، والمتسببين في الانبعاثات الكربونية، إلّا أننا نسابقهم في اكتشاف الحلول، وتطبيقها على أرض الواقع.
مبادرات السعودية
ومبادرات السعودية بدأت مبكرًا للحفاظ على البيئة، البرية والجوية والبحرية، وزرع الصحراء والسواحل والجبال، وإقامة مراصد الطقس، والاستثمار في تقنيات الكربون الدائريّ، (أي إعادة تخزين واستخدام الكربون بدلًا من إطلاقه في الجوّ)، وبناء مدن الطاقة الشمسية (أوّلها كانت في منطقة الرياض في بداية الثمانينات، وتنشأ حاليًا أكبر مساحة من نوعها في العالم، في شمال المملكة، من طاقة الرياح، والهيدروجين الأخضر، والأمونيا الزرقاء، لنصبح أكبر منتج لها في العالم.
كما نقود مبادرة زراعة خمسين مليار شجرة في منطقة الشرق الأوسط، خلال العقد الحالي، تتخطى مساحتها 200 مليون هكتار، وفق برنامج يُعدّ أكبر البرامج لزراعة الأشجار في العالم. وترمي مبادرة السعودية الخضراء إلى زراعة 10 مليارات شجرة، خلال العقود المقبلة، منها قرابة نصف مليار شجرة في العام 2030ـ ورفع نسبة المناطق المحمية إلى 30 % من إجمالي مناطق السعودية، وحماية الأحياء البرية المهددة بالانقراض، فضلاً عن تخفيض الانبعاثات الكربونية بمقدار 278 مليون طنّ سنوياً بنهاية العقد الحالي.
ولتحقيق أهداف مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، التي استضافت الرياض مقرّها، تمّ تخصيص مليارين وخمسمئة مليون دولار لدعم برامج التشجير والتنمية المستدامة لمصايد الأسماك ومراقبة الطقس والتغيّر المناخي والإنذار المبكر بالعواصف. ولتوفير المياه من خلال تقنيات أكثر جدوى لتحلية مياه البحر، وتنقية مياه الصرف الصحّي، واستمطار السحب، وإقامة السدود والاستغلال الأمثل للمياه الجوفية. ويتطلب ذلك المزيد من تكثيف البحث العلمي في مجالات استصلاح الأراضي البور وإنتاج شتلات تناسب البيئة الصحراوية والبحرية والجبلية.
الجدوى المالية
أمّا عن الجدوى المالية، فقد تحققت بالفعل، فاستمطار السحب مثلًا زاد كمية الامطار بنسبة في المئة، ودعم البيئة النباتية في المحميات الملكية رفع نسبة الغطاء النباتي الى 80 في المئة، وبناء المدرّجات الجبلية حوَّل مناطق كاملة، كسلسلة جبال فيفا في جنوب البلاد، الى مزارع منتجة للبن، ومنطقة الجوف في الشمال الى أكبر مزرعة منتجة للزيتون في العالم، ومناطق في تبوك وحائل والقصيم والخرج والإحساء الى تصدير التمور والزهور وتوفير الخضار والفواكه والمنتجات الحيوانية. وباكتمال مستهدفات رؤية 2030 سنكون حققنا الأمن الغذائي.
كما أنّ التقنيات والصناعات الخضراء مربحة ماليًّا، فقد قدّرت أرباحها بمئتي مليار دولار سنويًّا، خاصة عندما نضيف اليها برامج ترشيد استهلاك الطاقة، والاعتماد على الطاقة المتجددة بنسبة 50 في المئة، والغاز الطبيعي بنفس النسبة في 2030. ونجمع معها المكتسبات الأخرى لتنمية الثروات الحيوانية والسمكية، ولصناعات السياحة والترفيه والمركبات الكهربائية والتحلية. ولما نجنيه على مستوى جودة الحياة والصحة العامة بتخفيض درجات الحرارة وتكثيف النقل العام والتشجير والمحميات الطبيعية.
توزيع المسؤولية
بدا أنّ زوجتي اقتنعت، ولكنها عادت لتسأل بعد أن راجعت الأرقام: ولكن لماذا لا تتحمل كلّ دولة مشاركة مسؤوليتها؟ وماهي مصلحتنا في مبادرة الشرق الأوسط الأخضر؟
أوضحت: نحن جزء من المنطقة المحيطة، كما أنّ بيتنا جزء من الحي الذي نعيش فيه. فنحن إن زرعنا حديقته ولم نتعاون مع الجيران في زراعة الحديقة العامة، والطرق المؤدّية اليها، ضاقت مساحة الفائدة. هناك دول تستطيع اليوم بظروفها المالية، كدول الخليج، أن تتحمل نصيبًا أكبر في المساهمة، وهناك أخرى بحاجة الى الدعم.
لكننا في النهاية سنجني معًا ثمار المبادرة التي تعمل من خلال 6 برامج ومراكز للعمل المشترك. وتشمل منصة تشاركية لتسريع إدراج تقنيات الكربون الدائري اقتصادياً، ومركز إقليمي للتغيّر المناخي، وبرنامج إقليمي لتخصيب السحب، ومركز إقليمي للإنذار المبكر من العواصف، ومركز إقليمي لاحتجاز وإعادة استخدام الكربون، ومركز إقليمي للتنمية المستدامة بالمصايد السمكية.
كما تقود السعودية مبادرتين أخريين إقليميّتَين أولاهما تختصّ بتوفير وقود نظيف للطهي لخدمة أكثر من 750 مليون شخص على مستوى العالم، والثانية صندوق استثماري لحلول تقنيات الاقتصاد الدائري للكربون.
- سؤال أخير، متى سيتعرّف العالم على جهودنا وانجازاتنا؟
أجبت: ترأس ولي العهد مع الرئيس المصري النسخة الثانية من قمة المبادرات السعودية الخضراء، ودعي إليها كلّ المشاركين في قمة المناخ (كوب 27) بشرم الشيخ، وغيرهم من المهتمين بالبيئة والمناخ. ونظّمنا للزوار معرض مبادرة السعودية الخضراء لاستكشاف تنوع وأهمية المبادرات المنفّذة حالياً في مختلف أرجاء المملكة تأكيدًا على التزام المملكة بتحقيق هدف الوصول للحياد الصفري بحلول عام 2060. هذا بالإضافة الى التغطيات الإعلامية والفعاليات والمؤتمرات والندوات المحلية والدولية ستسهم في مجموعها بتعريف العالم بجهودنا.
يندر أن أفوز في مناظرة مع زوجتي المثقفة، ولكن لغة صمتها أوحت لي بأنها اقتنعت. وأكد لي هذه القناعة سؤالها لاحقًا عن حديقة الحيّ، وإمكانية التنسيق مع الجيران والبلدية لإعادة تنسيقها.
يا له من يوم سعيد!
أستاذ في جامعة الفيصل
Twitter: @kbatarfi