الدكتور نزار يونس
في مثل هذا اليوم، وقبل ثلاثة وثلاثين عامًا، تمّ تصديق ميثاق الوفاق الوطنيّ اللبنانيّ، عقدًا تأسيسيًّا بين مكوّنات الاجتماع اللبنانيّ للعيش معًا في دولة ديمقراطية معاصرة، دولة حرية ورغد عيش، لشعب قادر على بناء، اقتصاد منيع، وثقافة مرهفة، في وطن عزيز.
شكّل اتفاق الطائف وعدًا وعهدًا لانبعاث رسالة هذا الوطن، الفريدة، على اعتباره مساحة حرّة وغير رازحة للتلاقي والتآلف والاحتواء المتبادل ما بين المسلمين والمسيحيين، وقد جاء الميثاق تكريسًا لفرادته، ولخصوصيّة تكوينه التاريخي والجغرافي، التي جعلت منه، أرض ملاذٍ ومختبرًا إنسانيًّا لتفاعل الوافدين إليه، ولتظهير سِمات شعبه المميزة، التي أضحت حاجة للعالم كلّه، كما كرّسها السيد Rene Maheu رئيس منظمة الأونيسكو، في حديثه الى صحيفة "Le Monde" الفرنسية في تشرين الثاني عام 1975: "إن سمات لبنان وشعب لبنان حاجة للعالم، وهي تجسّد جوهر الحضارة نفسها، وهي غير شائعة للتغاضي عن نضوب منابعها في المكان الأضمن لتوافرها".
رسم مهندسو وثيقة الوفاق الوطني، التي وضعت حدًّا للحروب الهمجية، خارطة طريق لقيام دولة زمنية معاصرة، دولة مواطنة لا طائفية للشعب اللبناني العربي الهوية والهوى، سياجها، وفاق أهلها على المبادئ التي أُدرجت في مقدمة الدستور قاعدة للعيش معًا. ومن شأن مثل هذه الدولة المنجزة إنهاء الصراع الاحترافيّ، بين المواقع النافذة في الطوائف والقبائل والأحزاب، على الأوهام والخرافات والهوية والتاريخ.
لحظ الميثاق مرحلة انتقالية للتخلّي عن نظام التمثيل الطائفي تبدأ بعد انتخاب أوّل مجلس نيابي على قاعدة التوازن بين جناحي الوطن، وفقًا للإجراءات التي رسمها البند (ز) من الإصلاحات والتي أُدرجت في المادة /95/ من الدستور، هذه الإجراءات التي تمّ تجاهلها وتجميدها، بالرضى والقبول المتبادلين بين الوصي المنتدب والمؤسسة السياسية الاحترافية، لأكثر من ثلاثة عقود وأربعة عهود رئاسية تغاضت جميعها عن الالتزام بالميثاق وبالدستور وبالقسم.
فقد أذِنت تداعيات حرب الخليج التي أخلّت بالتوازنات العربية والدولية، بإطلاق يد المتضرّرين من الوفاق في لبنان للانقلاب على الميثاق، وشيطنته، وتشويه مبادئه، وإقصاء مريديه، حيث تمّ استبدال دولة المواطنة الزمنية اللا طائفية بلا دولة المحاصصة "الترويكا" المثلّثة الرؤوس، والاستعاضة عن هوية لبنان العربية بهويات شعبوية غريبة عن حضارتنا وتاريخنا وتراثنا، والتخلّي عن سيادة الدولة اللبنانية على ترابها لحساب السلاح الفئوي المرتهن.
الميثاق ليس وهمًا أو أحجية غامضة، فهو مُصاغ بلسان عربيّ فصيح، وهو موثّق ومُعترف به من المنظّمات الدولية وجامعة الدول العربية، والاتّحاد الأوروبي والدول العظمى الضامنة تنفيذ بنوده، على اعتباره الشرعة التي وضعها اللبنانيون للعيش معًا، والتي أضحت الوثيقة الأساس للاعتراف بشرعية الدولة اللبنانية، هذه الشرعية التي ما زالت ملتبسة ومنقوصة.
من الراهن أنّ الميثاق عقد ملزم ومستدام بين مكوّنات المجتمع اللبناني للعيش معًا وفقًا لمبادئه ولنصوصه، وهو غير قابل للتعديل أو للتجزئة أو للانتقاص، فهو قدرنا، وخشبة الخلاص الوحيدة لقيامة هذا الوطن، ولبقائه موحّدًا. إذ لا مجال إطلاقًا للبحث الملتبس عن طائف آخر، ولا سبيل لصناعة المستقبل إن لم يفِ الفرقاء في الحاضر بما التزموا به في الماضي.
فبعد السقوط والتفجير والتهجير، وبعد الشلل المتمادي في الأذهان والصدور، أضحى لزامًا على من بقي، وعي استحالة إنقاذ الوطن الذي يحتضر، من دون مساعدة أخوية فاعلة من الأسرة العربية في إطار المسؤولية العربية التاريخية، التي تمّ إعلانها في مؤتمر قمّة الدار البيضاء الذي انعقد في أيار عام 1989، من أجل إنقاذ الوطن اللبناني من خطر الاندثار أو الانفكاك.
فمن غير الجائز الإمعان في التهافت المأسوي نحو أقدارنا الذليلة، من دون مجير أو نصير. ويجدر بأهل المروءة والكرامة، أو من بقي منهم، تذكير أهلنا في جامعة الدول العربية ببيان جدّة الصادر في 24/10/1989، وبالضمانات التي أعلنتها اللجنة العربية الثلاثية، والتي كانت المدخل الأساسي لإبرام الميثاق على اعتباره مرجعًا للنظام السياسي للدولة اللبنانية، وأساسًا للاعتراف بشرعية سلطاتها الدستورية.
يشرفني بهذه المناسبة التاريخية، أن نتذكّر أهل ميثاق الطائف ومريديه الذين عقّوا وغُيّبوا لأنّهم أرادوا أن يبقى لبنان وطنًا للحرية ولثقافة الحياة، وأخصّ بالعرفان أمير الأخلاق والحكمة، الصديق معالي الأخضر الإبراهيميّ الذي كان ملهم الطائف وعرّابه. كما أخصّ بالتقدير سعادة السفير وليد بن عبدالله البخاري، الفارس الشجاع، الذي ما زال يراهن على إعادة الروح الى ميثاق الوفاق الوطني في سبيل بقاء اللبنانيين على أرضهم، ومن أجل إحياء رسالتهم الإنسانية في وطن كان حاجة للعالم لا عالة عليه.
في وطن لنا وللحضارة شعاره علمنة من دون التباس، وعروبة من دون انتقاص، وسيادة من دون شريك أو منازع.