أصدرت الإدارة الأميركية الجديدة مؤخراً عدداً من القرارات المهمة في ما يتعلق بموقفها من إيران والملفات ذات الصلة وأبرزها الملف النووي والبرنامج الصاروخي ودعم الإرهاب، وتعدي ميليشياتها وأذرعها في افغانستان والعراق وسوريا ولبنان واليمن على مصالح أميركا وحلفائها.
وفي ما يخص الملف النووي، تدرس الإدارة تخفيف بعض العقوبات لأسباب إنسانية، بدعم قرض قيمته 5 مليارات دولار، طلبته إيران من البنك الدولي لتمويل مواجهة فيروس كورونا، وتبدأ مشاورات عاجلة مع حلفائها في المنطقة حول التعديلات المطلوبة على الاتفاق، ومن بينها أن لا يحدد بمدة معينة، وأن يشمل البرنامج الصاروخي، والسلوكيات المزعزعة للسلام في المنطقة كدعم وتسليح وتوجيه منظمات إرهابية والتدخل في الشؤون الداخلية للدول. مع التأكيد على تشديد آلية المراقبة والمحاسبة وتفادي الثغرات التي استغلتها طهران في الاتفاق السابق.
ادارة السلام في اليمن
وفي المقابل تلغي واشنطن تصنيف ميليشيا الحوثي منظمة إرهابية بناء على طلب مؤسسات أممية بزعم عدم تعطيل الإنقلابيين وصول المساعدات الإنسانية لمستحقيها، ومشاركتهم في مباحثات السلام. وهو المنطق نفسه الذي أدى الى تصنيف طالبان باكستان إرهابية وعدم تصنيف نصفها الآخر، "طالبان" افغانستان!
كما تم تعيين تيم ليندر كينغ مبعوثاً خاصاً لليمن وهو الذي كان قريباً من الأزمة اليمنية بحكم عمله في ادارة الرئيس دونالد ترامب، نائباً لمساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، وخبرته الدبلوماسية خلال عمله السابق في السفارتين الأميركية في السعودية والإمارات، ومشاركته إدارة ملف المصالحة اليمنية بالتعاون مع المبعوث الأممي. ورغم معارضة ليندر كينغ لإطالة أمد الحرب إلا أنه اعتبر في تصريحات سابقة "أن الضغط العسكري على ميليشيا الحوثي أمر مقبول ومناسب جداً".
وفي الوقت نفسه، تؤكد الإدارة الأميركية إعلان الدعم الكامل للسعودية والإمارات في الدفاع عن النفس، ومواصلة التسليح والتدريب والتواجد العسكري والتعاون الأمني والاستخباراتي لضمان أمن البلدين والمنطقة. فيما أعلن البنتاغون مراجعة أو وقف مبيعات الأسلحة الهجومية تحديداً والتعاون العسكري في ما يتعلق بالصراع في اليمن، حتى تتفرغ كل الأطراف لإيقاف الحرب، وإحياء عملية السلام، وتوفير البيئة الآمنة للعمل الانساني.
ترحيب سعودي اماراتي
ومن جانبها، رحبت دول مجلس التعاون الخليجي بالتعاون مع الإدارة الأميركية على مسار السلام في اطار قرار مجلس الأمن 2216 والمبادرة الخليجية المعتمدة من الدول الراعية الثماني عشرة بقيادة الولايات المتحدة، ومخرجات الحوار الوطني اليمني باشراف الامم المتحدة، والذي شاركت فيه ووقعت عليه جميع الأطراف اليمنية. مع التأكيد على نهج السلام الذي سلكته دول الخليج والتحالف العربي خلال السنوات الست الماضية، وأدى الى اجتماعات ومؤتمرات واتفاقات برعاية الأمم المتحدة كان آخرها اتفاق استوكهولم واتفاق الرياض للسلام بين الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً والأحزاب الجنوبية. كما أعلن التحالف العربي هدنة من طرف واحد سرعان ما انتهكها الحوثي بمهاجمة الأعيان المدنية في جنوب السعودية ومأرب بالطائرات المفخخة ومواصلة قصف المدنيين في تعز والحديدة.
وبالنسبة إلى عمليات المساعدة الإنسانية، فإن السعودية أكبر داعم دولي، اذ قدم مركز الملك سلمان للاغاثة والاعمال الإنسانية ما يعادل 17 مليار دولار خلال سنوات الصراع. علاوة على استضافة ملايين اللاجئين اليمنيين وتوفير الاقامة والعمل والخدمات الصحية والتعليمية لهم. وقدمت الإمارات مساعدات مليارية للشعب اليمني لتجاوز محنته المعيشية القاسية.
كما رحبت الرياض وأبو ظبي بالتزام الولايات المتحدة أمن البلدين والمنطقة، وأكدتا أهمية التعاون العسكري والأمني لمواجهة الإرهاب والتحديات الأمنية، وذكّر البلدان بتعاونهما خلال العقدين الماضيين في محاربة "القاعدة" و"داعش" وغيرهما من المنظمات الإرهابية في المنطقة وخارجها والمعارك التي خاضاها مع القوات الأميركية في سوريا واليمن.
حقوق الإنسان
وفي ما يتعلق بملف حقوق الإنسان، فإن السعودية حققت إنجازات تاريخية في مجالات عديدة مثل حقوق المرأة والحريات الشخصية. ويمكن الرد على المزاعم الإعلامية والحقوقية حول أسباب وظروف بعض الاعتقالات من خلال القنوات الرسمية. والرياض كانت منفتحة دوماً على مثل هذه التساؤلات والملاحظات في إطار المشاورات بين الشركاء والأصدقاء. ولا يتصورن أحد أن واشنطن ستطالب أو أن الرياض ستقبل بإطلاق سراح المحرضين على الإرهاب والفتن الطائفية ومنظري خطاب الكراهية والمتآمرين على أمن البلاد او اعتبارهم معتقلي رأي، بعد كل ما عانته أميركا والعالم من انشطتهم.
أما قضية المواطن جمال خاشقجي "رحمه الله"، فقد تمت معالجتها أمنياً وقضائياً بشفافية عالية، بما يحقق العدالة للضحية ويرضي أصحاب الدم من أسرته. وسبق أن أعلن وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، وهو المدير العام السابق لـ"السي آي ايه"، أن وكالة الاستخبارات الاميركية لم تتوصل الى أي دليل على علم القيادة السعودية المسبق بالجريمة. ولذا فإن التلويح بتقديم الملف الى الكونغرس يذكرنا بالصفحات المحذوفة من تقرير أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، والتي طالبت السعودية بكشفها لأنهاء الجدل بشأنها، وعندما تم ذلك اتضح أنها لا تحمل أي أدانة بل مجرد تكهنات وتساؤلات لبعض المحققين.
الشراكة الاستراتيجية
وفي تقديري، أن مساحة الاتفاق بين أميركا وحلفائها التقليديين تغلب نقاط الاختلاف، وعلى رأسها البنود الأساسية التي ترتكز على شراكة سبعين عاماً لحماية أكبر مصادر الطاقة في العالم والممرات المائية والمضائق البحرية الاستراتجية (مضيق هرمز، وباب المندب وقناة السويس)، والتنسيق لضبط تقلبات الانتاج وأسعاره، بما يحفظ حقوق المنتج والمستهلك. وهو ما حقق للعالم الحر وسوق الطاقة العالمية الاستقرار والوفرة وتأمين الوصول الى مراكز الانتاج لسبعة عقود.
كما استفادت أسواق العالم من حركة الاستثمار والتجارة والتنمية المستقرة، العالية الوتيرة، والمرتفعة الجدوى والأمان في دول الخليج العربية. ولعل البنوك والمؤسسات وبيوت التجارة الإيرانية تشهد بفائدة هذا التعاون الملياري، وبما لاقته من التسهيلات والضمانات رغم عدوانية حكومتهم واحتلالها للجزر الإماراتية الثلاث.
هذا النوع من الشراكات أُسس ليبقى ويزدهر، ومن راهن على أن تغير الرئاسة الأميركية سينتج تحولات جذرية خارج إطار التبدل الموضعي والآني للروئ السياسية المحققة للمصالح المشتركة، خسر الرهان في كل مرة. فقد أثبتت الشراكة السعودية - الأميركية رسوخها منذ أول اتفاق بين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأميركي الثاني والثلاثين، فرانكلين روزفلت، على ظهر البارجة الأميركية كوينزي في البحيرات المرة، عام 1945. كما تجاوزت العلاقة الخلاف على القضية الفلسطينية وقطع النفط على الدول الداعمة لإسرائيل وتواجد الجيوش السعودية على خط المواجهة في كل الحروب منذ حرب التقسيم عام 1948 وحتى حرب رمضان عام 1973.
وصمدت الصداقة أمام مزاعم علاقة جهات أو شخصيات رسمية سعودية باعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) حتى اثبتت المحاكم الأميركية الفدرالية براءتهم وتورط إيران. ولم تؤثر فيها مواجهة الرياض لغزو العراق وتصديها مع الإمارات لمخطط "الفوضى الخلاقة" ومشروع "الهدم وإعادة البناء" ومؤامرة "الربيع العربي".
أهمية السعودية
وتزداد اليوم أهمية السعودية ودورها على المسرح الدولي، فهي واحدة من أكبر 20 اقتصاداً في العالم، وتمثل 57 دولة مسلمة، و 22 دولة عربية، وتلهم ملياراً وستمئة مليون مسلم. وأميركا التي تدخل الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، في مواجهة التنين الصيني الصاعد، والدب الروسي المتنمر، والملا النووي، وذئاب الإرهاب الدولي، وتحديات كورونا والانتهاكات السيبرانية، والعجز المالي غير المسبوق، بحاجة أكثر من أي وقت مضى، الى حليف، كالسعودية، ذي مكانة وقوة وصدقية، لمساعدتها في مواجهة التحديات. ولم تعد استراتجية أوباما بتمكين إيران وتركيا بالتعاون مع إسرائيل لتسكين المنطقة، ومغادرة خسائر الشرق الأوسط الى مصالح الشرق الأقصى والتفرغ لمواجهة المارد الصيني ممكنة، بعد أن تسللت بكين عبر طريق الحرير وموسكو عبر القواعد العسكرية لملء الفراغ الاقتصادي والأمني، وشكل الإرهاب، والميليشيات الإيرانية، واللاجئين، أخطاراً على المصالح الأميركية والغربية.
يعود الرئيس الأميركي السادس والأربعين، جوزف بايدن الى الشرق الأوسط بمقاربة جديدة لرؤية ثابتة، وتكتيك مبتكر لاستراتجية راسخة، ووجه آخر لدولة عميقة ومؤسسات عريقة. فلا يوجد خلاف بين الإدارة السابقة واللاحقة على الأخطار التي تهدد أميركا وحلفائها والنتائج المستهدفة والالتزام الثابت والدائم لسلام وأمن المنطقة.
والرئيس المخضرم في دهاليز السياسة نصف قرن، يدرك أن نجاح أو فشل برنامجه مرتهن بمتغيرات عديدة ليست كلها في يد اللاعب الأميركي، وثوابت رئيسية أهمها تعاون الشركاء، وتكالب المنافسين.
البداية توحي بتعقل وتوازن السياسة الجديدة وقابليتها للتعلم من الأخطاء، ولكن الحكم ما زال مبكراً على مدى وضوح الرؤية وشفافية الأجندة وثبات القدم ... وعلى التأقلم والتكيف ودينامية صناعة القرار.
@kbatarfi