النهار

عندما يكشف الزلزال العلاقة المتصدّعة بين السياسة "والاعتبارات الإنسانيّة"
المصدر: "النهار"
عندما يكشف الزلزال العلاقة المتصدّعة بين السياسة "والاعتبارات الإنسانيّة"
يد طفل سوري وسط أنقاض مبنى منهار في 7 شباط 2023 في بلدة جندريس في محافظة حلب (أ ف ب).
A+   A-
غسان صليبي
 
طُرِحت بحدّة العلاقة بين السياسة "والاعتبارات الإنسانية"، بعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا، فعَلَت الأصوات بضرورة أن تخرق هذه "الاعتبارات الإنسانية" جدار السياسة بين تركيا وسوريا، أو بين لبنان وسوريا، أو بين الغرب وسوريا، وحتى بين المعارضة والنظام السوري.
 
المقصود بــ"الاعتبارات الإنسانية" هنا القتلى والجرحى والمفقودون والمشرّدون والدمار الذي خلّفه الزلزال، والحاجة إلى عمليّات إنقاذ يتعاون فيها "الجميع"، من دون اعتبار للعلاقات أو المواقف السياسيّة التي سبقت الزلزال.
 
في السنة الأخيرة دخلت "الاعتبارات الإنسانية" في الجدال السياسي في لبنان، على أثر قضيّة المطران الحاج الذي أوقفته السلطات الأمنيّة، بحجة قدومه من إسرائيل محمّلاً المال والمساعدات إلى لبنانيين، من أقرباء لهم هربوا إلى إسرئيل بعد تحرير الجنوب، لارتباطهم بالعدو الإسرائيلي إبّان احتلاله لبنان.
 
في حينه، صرّح البطريرك بشارة الراعي أن "ما قام به المطران عمل إنساني"، ولا دخل له بالسياسة ولا بالتطبيع مع إسرائيل، في الوقت الذي اعتبر فيه اللبنانيين في إسرائيل مبعدين وليسوا عملاء. وردّ عليه المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان بأن "القضايا الإنسانية شأن آخر، والربط بين الشأنين يضع لبنان أمام كابوس إسرائيلي جديد". ويُمكن القول إن موقفَي المرجعيّتين الدينيّتين عكسا إلى حدّ كبير المواقف الشعبية، في كل من البيئتين المسيحية والشيعية.
 
تتكرّر هذه المواقف وهذه الاصطفافات عند طرح مسألة النزوح السوري في لبنان؛ فمعارضو النظام السوري الرافضون للتطبيع معه يتمسّكون بـ"الاعتبارات الإنسانية"، لرفض إعادة النازحين من دون رضاهم إلى بلادهم، في حين يبدأ حلفاء النظام السوري محاججتهم بضرورة "وضع الاعتبارات الإنسانية على جنب"، أو يتمسّكون بـ"الاعتبارات الإنسانية" المتعلّقة بأوضاع الشعب اللبناني غير القادر على تحمّل عبء النزوح السوري.
 
هذه الاصطفافات من موضوع "الاعتبارات الإنسانية" تتغيّر بحسب تغيّر الظروف السياسية. ففي الفترة الزمنية التي كان يحتاج فيها "حزب الله" إلى التهدئة، مع تركيزه على أن خلاصنا الوحيد هو في ثروتنا البحرية، أي من خلال ترسيم الحدود مع إسرائيل، كان لافتاً تأكيد نصرالله أن "على المعنيين أن يضعوا المشهد الإنساني أوّلاً قبل الاعتبارات السياسية".
 
اصطفافات من نوع آخر، ولو متقاطعة مع الأخرى، شهدناها مع اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا. المؤيّدون لأميركا و"الناتو" رفضوا الهجوم الروسيّ على أوكرانيا باعتباره احتلالاً لدولة مستقلّة، لكن أيضاً لـ"اعتبارات إنسانية"، ضد الحرب والقتل والتدمير. أمّا المؤيّدون لروسيا فدافعوا عن الهجوم لاعتبارات جيواستراتيجية متّصلة بعلاقات روسيا وأوكرانيا التاريخية، ولضرورة التوازن الدوليّ بوجه الأحاديّة الأميركيّة. ولم يهمل هؤلاء "الاعتبارات الإنسانية"، لكن في رفضهم للعقوبات الاقتصادية على روسيا وشعبها.
 
المواقف اليوم، بعد الزلزال في سوريا وتركيا، تحمل معها الخلفيّات والتناقضات نفسها، في ما يتعلّق بـ"الاعتبارات الإنسانية"، التي تحتّم على العالم أجمع ان يقدّم العون والمساعدة للمتضرّرين من الزلزال في سوريا.
أتوقف عند بعض المشاهدات اللافتة في لبنان.
الحكومة أرسلت وفداً وزارياً لزيارة سوريا والتعبير عن دعمها "الإنساني" لها، والوفد التقى الأسد المتّهم من الأمم المتحدة ومن قسم من شعبه بارتكاب "جرائم ضد الإنسانية". تألّف الوفد من وزراء مسيحيين وشيعة يمثّلون "الثنائي الشيعي" و"التيار الوطني الحر"، وفي غياب وزير سنيّ، بالرغم من أنّ الوفد قدّم تعازيه ودعمه، باسم رئيس الحكومة السنيّ.
 
حول اللقاء مع الأسد، قال وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار لـ"النهار": "سردنا تاريخيّاً كيف وقفت سوريا إلى جانب لبنان، وكيف وقف لبنان إلى جانبها خلال الحرب، واستقبل النازحين من دون شرط أو قيد". هذا الوزير نفسه هو من الفريق السياسي الذي يضع اليوم شروطاً على بقاء النازحين السوريين في لبنان، والذي اعتبر في الأمس أن سوريا لم تقف إلى جانب لبنان، بل احتلّته وهيمنت عليه.
 
وأضاف حجّار أنّه "أكدنا للأسد أنّنا سنُكمل اليوم دعمنا لسوريا، فالشرق الأوسط مناطق لقاء، ومن هنا خرجت الديانات السماوية، وعلاقتنا كدول تتخطّى المصالح ومبنيّة على القيم".
 
لا حاجة للتوقف عند الهلوسة السياسية التي تضمّنتها هذه الفقرة، والتي لا علاقة لها بالواقع، فلْنلاحظ فقط اعتبار الأديان وقيمها كمحدّدة للعلاقات بين الدول، في حين أن دوافع الزيارة هي "الاعتبارات الإنسانية"، التي تتخطّى الاعتبارات الدينية، وتتناقض معها في الكثير من الأحيان، خاصة في منطقة الشرق الأوسط.
 
زيارة الوفد الرسمي دمشق لاقت انتقاداً من الجهات اللبنانية السياسية المعارضة تاريخياً للنظام السوري، التي رأت في "الاعتبارات الإنسانية" مجرّد حجّة للتطبيع مع النظام. والبعض منها أصدر بيانات تضامن مع الشعب السوري وليس مع النظام. حتى أن النائب في كتلة نواب التغيير إبراهيم منيمنة غرّد على "تويتر" متسائلاً: "هل زيارة الوفد الوزاري هي لتطبيع العلاقة مع نظام الأسد أم حرصاً على الشعب السوري ولإغاثته؟ وإن كان لإغاثته فما جدوى زيارة قصر المهاجرين؟ ألم يكن الأجدى إرسال المساعدات والدعم إلى المناطق المتضرّرة مباشرة؟ وهل هناك من يسعى لاستغلال معاناة الشعب السوري لأجندات سياسية إقليمية؟".
 
بعض الجهات السياسية الأخرى، من مثل الحزب الشيوعي، حرصت على تقديم الدعم والمساعدات من خلال جمعية "النجدة الشعبية"، تحت شعار "من أجل الإنسان، من الشعب اللبناني إلى الشعب السوري الشقيق". ففي "نداء إلى الشعب اللبناني والرأي العام العالمي وإلى مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الصديقة"، اعتبرت الجمعية أن الزلزال "نتج منه وضع كارثي يدفعنا، خصوصاً في ظلّ الحصار المفروض على سوريا ، إلى التدخل لمساعدة الشعب السوري المنكوب وكلّ المتضررين بكلّ ما يمكن القيام به".
 
وأضاف البيان "إن التضامن مع المنكوبين عدا أنه واجب إنساني، هو، في الحقيقة، حق علينا وواجب تجاه الشعب السوري الشقيق وكلّ المتضررين والمصابين". بالرغم من أن شعار "من أجل الإنسان" يتنزّه من كلّ اعتبار سياسيّ أو ديني، تجد في البيان ما يعيدك إلى الدوافع السياسية: فالمساعدة تتم "خصوصاً في ظلّ الحصار المفروض على سوريا"، والتضامن مع المنكوبين "عدا أنه واجب إنساني... هو حق علينا وواجب تجاه الشعب السوري الشقيق". "الحصار" على سوريا وكون الشعب السوري "شقيقاً"، يكادان يجرّدان الاندفاعة نحو المساعدة والتضامن، من نزعتها الإنسانية الخالصة.
 
إن هذه المشاهدات والمواقف تشير إلى أمرين مترابطين: الأول أنّ العلاقة بين السياسة و"الاعتبارات الإنسانية" تُطرح كأن هناك تناقضاً أصليّاً بينهما، ولا بدّ من تجاوزه؛ والثاني أن المقصود بــ"الاعتبارات الإنسانية" يختلف معناه باختلاف الموقف السياسي للطرف الذي ينادي بها.
بالرغم من أن كلمة "سياسة" تعني اصطلاحاً "رعاية شؤون الدولة الداخليّة والخارجيّة"، بما تحمل كلمة "رعاية" من موقف إيجابي من مصالح الناس، أي إنها تفترض ضمناً احتراماً لـ"الاعتبارات الإنسانية"، إلّا أن مفهوم "السياسة" اختلف معناه عبر التاريخ وبحسب المفكّرين.
 
الرأي العام السائد في لبنان، وفي الكثير من البلدان، هو أن "السياسة" شيء بشع وظالم ومؤذٍ. "السياسة ما إلها ربّ" كما يقولون. لا شكّ في أن موقف الرأي العام من "السياسة" بُنيَ على التجربة، أي على الممارسة السياسيّة، في العالم وفي لبنان. وفي بلادنا هناك شبه إجماع على أن "السياسة" دمّرت البشر والحجر، وهي تدوس بأقدامها على "الاعتبارات الإنسانية".
 
هذه النظرة البشعة إلى "السياسة" لا يحتكرها الرأي العام الشعبي، بل يتشاركها مع مفكّرين في العلوم السياسيّة، أبرزهم والأكثر صيتاً ماكيافيلي، الذي عكس في كتابه "الأمير" صورة عن الإنسان، تنتج منها ممارسة للسياسة لا تتوخّى إلّا السيطرة والتسلّط والربح والانتصار على الآخر، أي من دون اعتبار لــ"الاعتبارات الإنسانية".
 
لا يمكن فصل فكر ماكيافيلي عن الوظيفة التي كان يتبوّأها، فكان ديبلوماسياً أوّل في بلاط الحاكم، ولا عن الظروف التي كتب فيها، وهي ما قبل نشوء الدولة الديموقراطيّة. لكن بالرغم من ذلك بقي فكر ماكيافيلي حيّاً في العلوم السياسيّة حتى أيامنا هذه، التي شهدت إعادة نظر في مفهوم "السياسة" على ضوء تطوّر المجتمعات نحو المزيد من الحرية والديموقراطيّة واحترام حقوق الإنسان.
 
من حيث المبدأ، لم يعد هناك تناقض بين "السياسة" و"الاعتبارات الإنسانية"، فعلى "السياسة" أن تستجيب لهذه "الاعتبارات الإنسانية" المعبّر عنها ديموقراطيّاً من خلال الاقتراع الحرّ واشتغال المؤسسات الدستوريّة في دولة القانون وحقوق الإنسان. هذه النظرة المثاليّة غير مطبّقة للأسف تماماً في الواقع، لكنّها تشكّل بمختلف عناصرها عقبات فعليّة أمام انحراف "السياسة" نحو ممارسات تخالف لا بل تتعدّى على "الاعتبارات الإنسانية".
 
المأساة في البلدان العربيّة والشرق أوسطيّة أن "السياسة" لم تخرج بعد من مفهومها الماكيافيلي السابق لقيام النظام الديموقراطي، و"الاعتبارات الإنسانية"، ولم تعترف بعد بحقوق الإنسان، وفق ما نصّ عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات والإعلانات المتّصلة؛ وهذه الحقوق لا تزال أسيرة النظرة الدينيّة التي تقسّم وتفرّق بين البشر على أساس الدين والمذهب، معمّمة فعلها التمييزي على الأعراق والأجناس والجندر والأجيال.
 
بعض أشكال هذا التمييز لا تنطبق فقط على مجتمعاتنا العربيّة والشرق أوسطيّة بل على الكثير من البلدان الأخرى وفي جميع القارات. تتعقّد مسألة علاقة السياسة بـ"الاعتبارات الإنسانية" عندما يتصل الأمر بالعلاقة بين الدول، حيث تجري التضحية في صراعاتها بــ"الاعتبارات الإنسانية" لصالح مصلحة الدول. الدول الأقوى، عسكرياً واقتصادياً، صاحبة الأنظمة الديموقراطيّة، وإضافة إلى دوسها على "الاعتبارات الإنسانية" في البلدان الأضعف، تلجأ أحياناً إلى التغاضي عن "الاعتبارات الإنسانية" عند شعوبها هي، بحجّة الحفاظ على مصلحة الدولة أو النظام ككل. أمّا في الدول الأضعف، فالحجة نفسها أي مصلحة الدولة ("لا صوت يعلو فوق صوت المعركة") تُستخدم لتجاهل "الاعتبارات الإنسانية" في بلدانها، بل في مواجهتها الدولَ الأقوى بشعارات تتّهمها بأنّها لا تحترم حريّة الشعوب الأخرى ومصالحها ولا تتأثّر بمعاناتها.
 
لكن الكلام عن "الاعتبارات الإنسانية" اليوم له خصوصيته. ففي العادة يجري طرحها مقابل "السياسة" وصراعاتها، أي يُطلب من "السياسة" أخذ "الاعتبارات الإنسانية" في الاعتبار، ممّا يفترض تجاوز الخلافات السياسيّة لمصلحة "الاعتبارات الإنسانية". في الأمثلة التي أعطيناها أعلاه، طُرِحت "الاعتبارات الإنسانية" في إطار العلاقة مع إسرائيل (المطران الحاج)، أو في إطار العلاقة مع النظام السوري (قضية النازحين)، أو في إطار الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة. ما هو مطروح اليوم، مختلف تماماً. فلا "حجج سياسية" لها علاقة بالزلزال نفسه تحول دون مراعاة "الاعتبارات الإنسانية"، إذ إن الزلزال ذو طبيعة جيولوجيّة لا سياسيّة، كما أنه ضرب مناطق النظام والمعارضة في سوريا، مقلّصاً أكثر فأكثر القدرة على التمسّك بالحجج السياسيّة.
 
في غياب "الحجج السياسيّة" المتعلّقة بطبيعة الزلزال نفسه، يصعب على المتناحرين سياسيّاً التحجّج بالسياسة لرفض الخضوع لمستلزمات "الاعتبارات الإنسانية". وهنا التحدّي الأكبر بوجه أصحاب "الحجج السياسيّة"، إذ يبدون عاجزين عن فصل "الاعتبارات الإنسانية" عن "الحجج السياسيّة" عبر إصرارهم على ضرورة "فكّ الحصار" أو ضرورة "عدم التطبيع مع النظام السوري".
للأسف، لا تبدو مسألة التعاطف أو التضامن مع المآسي البشريّة منفصلة عن حججها السياسيّة، وخلفيّاتها المذهبيّة والطائفيّة والقوميّة. وهذا هو التصدّع الإنساني الأخطر الذي كشف عنه الزلزال: فنحن شعوب لا تعطي قيمة للحياة البشريّة إلا إذا ألحقت هذه القيمة بمتطلبات دينيّة أو سياسيّة.
 
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium