يُشكّل الاجتماع الذي احتضنته العاصمة الصينية بيجينغ بين وزير الخارجية السعودي ونظيره الإيراني خطوة إيجابية في مسار غير متوقع نحو عودة الاستقرار الذي تفتقد إليه المنطقة منذ أكثر من 40 عامًا.
جاء هذا الاجتماع بعد أقلّ من شهر على الاتفاق السعودي - الإيراني الذي أُعلن عنه برعاية صينية في 10 آذار، حيث إن توقيته يشهد أيضًا وأيضًا على الكفاءة الصينية، وعلى عزم كلا الطرفين على المضي قدمًا بهذا الاتفاق إلى أن يبلغ خواتيمه.
يعكس اختيار كلّ من السعودية وإيران لوزيري خارجيتيهما لترؤس الاجتماع الذي عُقد يوم الخميس ثقة كلّ من القيادتين في الصفقة التي تمّ التوصل إليها، وبذلك تمّ تفويض الهيئات الحكومية ذات الصلة تفعيل مضمون الاتفاق. ومن هنا كانت أهمية أن يحضر توقيع الاتفاق الأوّليّ كلّ من علي شمخاني وهو جنرال بنجمتين وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، ومساعد العيبان وهو مستشار رفيع المستوى في الديوان الملكي السعودي ومن مساعدي ولي العهد الموثوقين.
وأتوقّع أنّه جاء اختيار هذين الشخصين ليشاركا في حفل توقيع الاتفاق بناءً على إصرار المملكة على دحض مزاعم المنتقدين الذين يشكّكون في الاتفاق الإيراني – السعودي، والذين زعموا أنه قد يكون حظي بمباركة وزارة الخارجية الإيرانية، ولكن ليس بمباركة القوى الحاكمة الفعلية في إيران أو أجهزتها الأمنية. وبهذا لن تستطيع طهران الادعاء بأنّ الاتفاق المذكور لم يحظَ بتأييد كلّ مَن في النظام (لكن لا يعتقدنّ أحد أن هناك فصلاً حقيقيًا بين السلطات في طهران، ولكنها حجة لطالما تمّ التذرّع بها.
لقد سُئلت مرات عديدة خلال الشهر الماضي عن مدى جديّة التزام النظام الإيراني بالاتفاق. لا أحد يملك الجواب عن هذا السؤال إلا كبار المسؤولين في طهران. ما أعرفه، وما يعرفه أيّ مفاوض مخضرم، أنّه لا يتطلّب انهيار مثل هكذا الاتفاق الكثير.
يُقال عن المفاوضين الإيرانيين إنهم يتمتعون بصبر حائكي السجّاد الفارسي. سواء أكانوا يتفاوضون مع المملكة العربية السعودية أم مع الدول الغربية، ولطالما كان اللعب على الوقت هو ورقتهم الرابحة. في الحالة السعودية، استغلّوا حقيقة أن جميع ملوكنا كانوا في سنّ متقدّمة عند اعتلائهم العرش، فعرف الإيرانيون أنّها مسألة وقت وحسب قبل أن يضطروا إلى التعامل مع قيادة جديدة ستكون أولويتها تنظيم الشؤون الداخلية لبلادها قبل أن تنصرف إلى صراعها مع إيران.
وعند التعامل مع الديمقراطيات الغربية، أدركت إيران أنّ القادة المنتخبين يتغيّرون كلّ بضع سنوات. وحتى في الآونة الأخيرة مع الانتقال الرسمي للسلطة من ترامب إلى بايدن في البيت الأبيض، كلّ ما كان على طهران فعله هو تخطّي حملة "الضغوط القصوى"، التي شنّها ترامب على النظام الإيراني، ريثما يستلم بايدن الحكم، لا سيما أن هذا الأخير كان مصمّمًا على إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ممّا يعني أنه يمكن للإيرانيين المطالبة بتنازلات.
والخبر السار أن الاتفاق الذي تمّ توقيعه في 10 آذار بوساطة صينية لم يأخذ بأيٍّ من الاعتبارات السابقة؛ وما يجعله مختلفًا هو أنه يقوم على "ضامن مزدوج"، لدينا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من جهة، والصين من جهة أخرى.
يمتاز حكم ولي العهد، الشاب الديناميكي والمتمكّن، بالاستقرار الداخليّ واستمراريّة السياسة الخارجيّة لعقود مقبلة، ممّا يمكّن المسؤولين المعنيين من التركيز على كلّ تفاصيل الصفقة حتى الوصول إلى خواتيمها. من ناحية أخرى، فإن الاتفاق تمّ بوساطة صينية وليس بوساطة من الولايات المتحدة، لذا سيكون من الصعب على طهران التملّص منه متذّرعة بالإدارة الأميركية التي قد لا تحظى بدعم الحزبين في الكونغرس، وسيتمّ استبدالها بعد قضاء فترة ولايتها.
هذا ونجحت الصين للمرة الأولى، من خلال رعايتها لهذا الاتفاق، في أن تظهر كصانعة سلام على خريطة العالم، ناهيك بتعزيز الاحترام الذي تحظى به كقوة عظمى عالمية. لقد تعهّدت الصين باستثمار 300 مليار دولار في إيران على مدى 25 عامًا بصفتها أكبر شريك تجاريّ لها، لذا ممّا لا شكّ فيه أن التنّين الصيني لن يألو جهدًا، وسيبقى في أعقاب طهران لضمان التزامها بالصفقة؛ وفي اعتقادي هذه هي الطريقة الوحيدة لإنجاح الاتفاق.
فهل هذا يعني أن النجاح مضمون؟ حسنًا، لا شيء مضمون في السياسة. لكن هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة.
السيناريو الأكثر تشاؤمًا هو ألا تلتزم إيران بالاتفاق. وبتراجع إيران عن الاتفاق نكون قد أضعنا فرصة كبيرة لتحقيق السلام في المنطقة. وبتراجعها عن الاتفاق، تكون طهران أيضًا قد انقلبت على دولة بحجم الصين ووزنها، لا سيما أن إيران لا تملك على الساحة العالمية سوى بلدين صديقين لها، أحدهما الصين، والبلد الآخر هو روسيا المنهمكة حاليًا بمشكلاتها الخاصة. أمّا بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، فإن انقلاب إيران على الاتفاق يعني ببساطة العودة إلى الوضع الراهن، حيث إن في جعبتها أكثر من 40 عامًا من الخبرة في مواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار والوقوف في وجه ميليشياتها.
السيناريو الأكثر ترجيحًا وواقعية هو أن تتقدّم الصفقة بخطوات بطيئة، ولكن ثابتة، إذ نصّت الاتفاقية بالفعل على التزام كلّ من البلدين بوقف الهجمات وعدم دعم الأعمال العدائية ضد بعضهما البعض. وفي هذا السياق، أعلنت ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران في اليمن يوم الخميس تمديد الهدنة في البلاد لمدة ستة أشهر، وهذا مؤشر إيجابيّ. كذلك اتفق البلدان على إعادة فتح البعثات الدبلوماسية، ممّا من شأنه أن يمكّن القوتين الإقليميتين من التفاوض مباشرة، واستخدام الوسائل الدبلوماسية لمساعدة الحكومات المعنيّة على تحقيق الاستقرار والخروج بأفضل الحلول الممكنة في بؤر التوتر مثل اليمن ولبنان والعراق وسوريا.
أما السيناريو الأكثر تفاؤلًا فهو أن نستيقظ جميعًا يومًا ما لنجد أن كلّ صراع إقليميّ يحمل بصمات إيرانية قد تمّ حلّه، بما في ذلك انسحاب طهران من العراق ولبنان وسوريا. لكنّ هذا أمر غير مرجّح بالنظر إلى الكمّ الهائل من الاستثمارات والمصالح الإيرانية الراسخة في هذه البلدان.
ولكن مهما اختلفت السيناريوهات ونتائجها، فمن وجهة نظر سعودية، يشّكل الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه انتصارًا واضح المعالم حتى الآن، ليس للمملكة فحسب، بل للمنطقة والأسواق العالمية وأمن الطاقة.